الأنبا شنودة: تعلّمناك وما اكتفينا

img076

ثم ها أنت يا سيدي تغادرنا على قلق، والريح تتلاعب بسفينتنا ذات اليمين وذات الشمال.

ها أنت تمشي على صفحة ماء النهر العظيم تمضي ونحن نتعجب من هذا اللطف الذي ينساب بعيداً.

ها نحن نعترف لك، أيها الراهب الأسقف المطران الكاتب البابا، بأننا عندما تشتدّ بنا الخطوب وتعصف بنا الفتن ونقف على منزلق نرجو محبتك لتقوم بنفسك وتأخذ بأيدينا الى بر الأمان ثم أنك وحدك تعلن الصيام والصمت.

لقد تعلمناك وما اكتفينا.

تعبت من العمر في الشك والإضطراب والشكوى ولم تعد يداك تحتملان الغبار الذي صار حالاً يعيش معنا ونعيش به فلا نكاد نبصر أمامنا وبعضنا.

تعبت ولم يعد عمرك يسعفك، أيها التلميذ الأستاذ المتعمق في التاريخ، والأديب والشاعر، لكي تفتش في صحرائنا عن مفردات في لغتنا تستردنا من هزيمتنا ومن وجعنا ومن تخلّفنا.

ولكن حيث انك لم تيأس قط فإنك تعبت من السلطات التي تعاقبت على الشعب ولم تتعب من النظام أو الدولة التي أردتها أن تنتبه لحياة الناس في السنوات العجاف وأن تغلق الأبواب أمام الريح السوداء وأن توقف نزف النهر وأن لا يدخل الوطن في الخريف.

هنا حيث التقيتك أيها العالم الزائد في مصر أو لبنان، وحيث لا أزال أحمل كتاب وصاياك، وآخر الأشعار المزدحمة بالطيور وبعبق النسيم في أول مواسمه، وآخر الكلمات التي تلبس الأشجار أوراقها على أهبة الربيع ـ هنا ـ أذكر كيف أخبرتني أنك وجدت الحرية والنقاء في الله بل كيف أن الله كان في قلبك أنهراً من المحبة المعتقة وكؤوساً متأججة باللطافة وعيوناً تشتد في التحديق في أسرار الكون والخليقة وجسداً تمضي به الى “اللطرون” لتعتزل الفتنة وتوقد سراجك وتفتح الحرف على الصوت.

ها أنت، يسقط الفراعنة وأنت لا تأبه كانهم لم يكونوا أصلاً، تمضي ثابت الخطوة مطهراً ومتطهراً بالشكر والغفران، يطفح وجهك بالبشر وتشرق المحبة من عينيك وتزدحم الإبتسامة في فمك وأنت تصطاد الناس.

ها أنت وقد مشيت طريق جلجلتك من مدرستك الأولى إلى التاريخ الفرعوني والحديث إلى الكلية الإكليركية وكلية اللاهوت وحيث كنت خادما لرعيتك وأباً لها وراهباً وأسقفاً ومطراناً إلى ما صرت عليه متوجاً على رأس كنيستك لا تهدأ على كرسيك بل تمضي داخل مصر وخارجها إلى أفريقيا وأميركا وأستراليا وأوروبا تؤسس المعاهد والأديرة وترسم الأساقفة وتكون الأشد إنتباهاً للشباب وتوسع أمكنة للمرأة.

ها أنت لم تغلق باباً على نفسك إلا للتأمل حتى يوم كنت في مغارتك للتعبد لم تهاجر آلام الناس أو آمالهم بل كنت صنو الحياة الناضجة بالضوء والصوت يسكنك الأطفال والعصافير وصحو الأشجار واللغة والشعر.

ها أنت الذي انفردت في العصر الحديدي للنظام في زمن الردة وكنت ربيعاً عربياً وصوتاً صارخاً يوم اختنقت الأصوات. عرفتنا بأن بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة وأن طريق فلسطين ليست عبر”الكنيست” وأنه لا يمكن مصر والعرب والشرق والعالم إقصاء أو تهميش فلسطين. وأن كنيستي المهد والقيامة والمسجد الأقصى ليست تواشيح مبعثرة في الخيال. وأن غزة ورفح هما شغاف القلب. وأن سيناء مكان موصل الى الألواح التي عليها كتاب الزمان الذي لم يضع في الرمل أو يته.

ها أنت، وها نحن أيها الأخ الراهب والبابا، ايها التلميذ والأستاذ، أيها المعلم في هذا الزمن الغادر تودعنا في أوج دمنا. كأنك تعرف أننا لن نخطئ الخروج الى الربيع، ولن نخطئ الربيع، ولن تأخذنا غمامة صيف الى شتاء كاذب، وأننا لن نبقى نعيش أبداً في خريف أعمارنا، بل اننا سنشهر أعمار أبنائنا وإرادتهم بغد أفضل.

ها نحن نعترف لك، بأننا كنا قبلك تنحسر على أوقاتنا ونعيش بؤس أيامنا، وكنا أسرى خوفنا، لكنك علمتنا الصوت وأن لا نخاف قول كلمة الحق أمام سلطان جائر وأن لا نخاف مقاومة العدوان وأن لا نسمح أن يطمس الإستيطان أسماء القدس وبيسان.

ها نحن نعترف لك، بأننا تعلمنا منك أن الكلمة أشف من البلور، وأقطع من السيف، وأن الإقتراب من الكلمة يحتاج الى شجاعة الفرسان، وان الشعر يختبئ في عروق الألماس، وأن الأديرة البعيدة تقع على طريق الله.

أيها البابا الجليل، العزيز، ليس الأقباط أبناء رعيتك على مساحة العالم ومصر، الذين وحدهم خسروا حضورك، وليست مصر وحدها من ستفتقدك، بل إننا جميعاً مسلمين ومسيحيين في الشرق وعلى مساحة العرب سنفتقدك بشدة، وخصوصاً نحن في لبنان وفي فلسطين الذين نحتاج الى حكمتك والى من يأخذ بأيدينا على طريق جلجلتنا.

يبقى يا سيدي، أيها الأنبا النبيل العزيز، أنني وإن كان يجتاحني الحزن، فإنك تجتمع ومحبتك والوقت فينا لنكون أقوياء بما نعلم وتعلم وما تعلمناه في جامعتك.

هذه التدوينة نشرت في خطابات. الإشارة المرجعية.