الصداقة لا تشيخ

_HIM1020

في القاهرة، وقبل أن ينكسر قلبه ويندلق عسل محبته للناس، أغمض ناصر الخرافي عينيه على النيل على النيل الذي لا زال على عهده وعاداته يحمل روحه على كف الماء ليكتب تاريخ جديد.

في القاهرة أغمض ناصر الخرافي عينيه على مشهد شباب مصر وقد فتحوا الباب لإعادة الألوان إلى مدار الوقت، وأشعلوا الحنين الذي يسكن قلوبناإلى أيام زمان، وفتحوا من ميدان التحرير المشهد على ثورة يوليو وتأميم القنال والسد العالي وحروب الإستنزاف وحرب رمضان.

في تلك اللحظة عبر ناصر الخرافي القنال ومشى خطواته الأخيرة إلى استراحته الأبدية.

أعترف بأنني إستغرقت بضع ساعات لألملم نفسي إثر الخبر الصاعق الذي حمل إلي وفاته بنوبة قلبية.

لقد انطفأ القلب الكبير ولم يقو على تحمل العاطفة الجياشة إزاء الموت الكثير والظلم الكبير الذي يصيب فلسطين، وإزاء الفتنة وقد بلغ مرحلة توشك أن تعبر عن الإنكسار في علاقات الجوار العربية الإيرانية وتوشك أن تضع المسلمين على خطوط تماس مذهبية.

أصاب الوجع الحاد ناصر الخرافي وهو ينظر إلى المساحة العربية المتصدعة، وإلى حروف الإستتباع الصغيرة والكبيرة بين مختلف أنماط السلطات العربية وشعوبها.

أعترف بأنها المرة الأولى التي أصاب فيها بحزن إستثنائي، وأنا الذي سبق لي ان أصابتني أحزان كثيرة على قادة وأبناء استشهدوا في الميدان وأهل وإخوة وأصدقاء فارقوا الحياة.

أقول “حزن إستثنائي” ليس بسبب الموت نفسه، فنحن إن أشرقت علينا الشمس لا نعرف إذا كنا سننتظر مغيبها، ونحن لا نعرف متى نقع على الموت أو متى يقع علينا، ونحن نعلم أن الله سبحانه يعطي ويسترد أمانته متى شاء.

أقول “حزن إستثنائي” لأن ناصر الخرافي كان صديقاً من الأعماق، وشخصية إنسانية مثلت ظاهرة مميزة في عالم رجال الأعمال العرب. كان عقله أغنى من ماله، ورصيده القومي والوطني أغلى من رصيده المصرفي، وقد كانت إنسانيته الغالبة هي الجانب الصامت في شخصيته، حيث أن أفعاله وعطاءاته كانت تأتي تلقلئية وعفوية وبريئة فتضيء كبرق وتسطع كأفق.

صداقتي وناصر الخرافي أكدت لي يوماً بعد يوم حتى لحظة الموت والوداع الأخير، أن الصداقة لا تشيخ بل تتعمق وتتجذر وتتعتق كالعقيق المسحور الذي لا يقدر بثمن.

أعرف أن ما كان يربط دولة الكويت أميراً ودولة وشعباً ولا زال مع لبنان أكثر من الهبات المالية، وأسماء القرى المعلقة كالنجوم من حانين إلى العرقوب إلى أعالي إقليم التفاح، التي أعيد بناؤها، وكذلك المشاريع الصحية والتربوية وشبكة الطرقات والماء والكهرباء.

وأعترف بأن ما أصبح يربط لبنان مع الكويت أكثر فأكثر، هو يد ناصر الخرافي البيضاء، التي أعادت إعمار مارون الراس التي كانت كرة النار الإسرائيلية قد دكتها خلال ما سمي”عملية الليطاني” في 14 آذار 1978 وخلال حرب تموز الإسرائيلية على لبنان صيف 2006.

لقد اختار ناصر الخرافي عن سابق إصرار وتصميم إعمار مارون الراس، لأنها تستحق أن تبقى مرفوعة الرأس بعد أن شهدت بطولات المقاومين وهم يتصدون لجحافل العدو وقوات النخبة في الجيش الإسرائيلي وجهاً لوجه، حاكورة حاكورة، بيتاً بيتاً وحارة حارة. وليس زنكة زنكة كما تعبث بعض الأنظمة بدماء شعوبها.

وأيضاً وأيضاً إختار ناصر الخرافي عن سابق إصرار وتصميم أن تنفذ “مجموعة الخرافي” مشروع الليطاني الذي مولت مخططه وستمول تنفيذه دولة الكويت، لأنه أراد أن يفسر حلم كبير مهندسي العرب إبراهيم عبد العال بغسل أحلام لبنان بالماء، لعلها تخفف من أوجاع كربلائه الجنوبية.

ها أنا أودع ناصر الخرافي “العم ناصر” كما كان يحلو له أن يسميه محبوه.

ها أنذا أمسك بيد أخي جاسم الخرافي رئيس مجلس الأمة الكويتي، لعلني أرد عنه بعض الحزن فلا تبقى الأحزان عامرة في ديارنا ولا يستمر الحزن يعبر عن سعادة شقائنا.

وها أنذا أناشد الذين يقفون في دائرة الضوء حيث تزدهر الشمس، أن نعبر معاً عن وفائنا للراحل الكبير، بأن نلتزم  العمل على وأد أي فتنة بين المسلمين، وأن لا نسمح بتحويل الإنتباه عن أسرائيل العدو الرئيسي للأمة، وأن تبقى بوصلتنا مشدودة الإنتباه إلى القدس بالذات وإلى المسجد الأقصى المبارك، حيث ترك ناصر الخرافي عينيه معلقتين على حائط البراق بإنتظار العائدين غداً.

هذه التدوينة نشرت في خطابات. الإشارة المرجعية.