بري: هذه هي قصتي مع «هيئة إلغاء الطائفية السياسية»

اعتاد الرئيس نبيه بري، منذ ان انغمس في الشأنين الحركي والنيابي، على خوض المعارك السياسية الصعبة، الى الحد الذي جعله يكتسب «مناعة» كافية في مواجهة كل أنواع الاختبارات. بهذا المعنى، بدا بري متماسكاً وهادئاً في تعاطيه مع ردود الفعل الحادة على دعوته الى المباشرة في إنشاء الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية، بل هو يتصرف على أساس أنه ما زال في بداية الطريق الوعرة.
قيل الكثير حول خلفيات طرح رئيس المجلس النيابي، وتقاطع العديد من الاستنتاجات عند الاعتقاد بأن بري يحاول أن يضيف الى جدول أعمال طاولة الحوار الوطني بنداً من العيار الثقيل يخفف الضغط عن بند المقاومة والاستراتيجية الدفاعية. ينفي بري بطبيعة الحال هذه الفرضية، وهو لا يجد أن هناك حاجة أصلاً الى مثل هذه «المحاكمة» لنياته، في ظل وجود نص جلي وغير ملتبس في الطائف والدستور يدعو الى تشكيل «الهيئة العليا».
يؤكد الرئيس بري أنه مستمر في معركة إلغاء الطائفية السياسية، «مع إدراكي أنها تحتاج الى نَفَس طويل»، مشدداً على ان الحملات التي تعرض لها لن تثنيه عن الاستمرار في السعي الى تحقيق أحد أهم بنود اتفاق الطائف، لأن الأمر لا يتصل بمزاج شخصي وإنما بالتزام دستوري، «والذين يفترضون أنني سأتراجع تحت وطأة الضغط لا يعرفونني جيداً، علماً بأنني أدرك تماماً خلفية موقف كل من تحامل عليّ…».
لا يكتفي بري بهذا القدر من التصميم على «الصمود والتصدي»، بل يذهب الى أكثر من ذلك، عندما يقول: ليعرف القاصي والداني، إنني سأكون المبادر الى إعادة تحريك موضوع إلغاء الطائفية وتحميته كلما شعرت أنه يميل الى البرودة او التلاشي.. المهم أن يبقى هذا الموضوع حياً وقيد النقاش، بمعزل عما إذا كنا سنتوصل الى نتائج سريعة بشأنه أم لا.
وبرغم شراسة الهجوم الذي تعرض له رئيس المجلس، فإنه يفضل ألا يتجاهل الجانب المليء من الكوب: «صحيح إنني بدأت المعركة شبه وحيد، ولكن الوضع تغير لاحقاً ولو بشكل نسبي… موقف حزب الله جيد وكذلك موقف النائب وليد جنبلاط وشخصيات سياسية أخرى، وحتى أن بعض الذين انتقدوني بشدة بدأوا الآن يراجعون حساباتهم، والمفارقة أن من بين الذين هاجموني من لم يقرأ كلامي جيداً، ولو فعل لكان قد أدرك أن «جريمتي» تكمن في أنني دعوت فقط الى الإسراع في إنشاء الهيئة العليا لدرس كيفية إلغاء الطائفية السياسية كما ورد في اتفاق الطائف، ولم أطالب بالمباشرة في إلغائها…».
وللدلالة على ثباته في موقعه، يضيف: لا يهمني من يكون ضدي، ما دمت مقتنعاً أنني على حق… وفي كل الحالات، إن موقفي هو مبدئي وبالتالي أنا لست حراً في التمسك به او التراجع عنه.. ان تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية منصوص عليه في الدستور، وأنا لا أريد أن يقال إنه في عهد نبيه بري في رئاسة مجلس النواب، جرى إهمال أحد أكثر الجوانب حيوية وأهمية في هذا الدستور.
وحين يُسأل بري عن كيفية التوفيق بين دعوته الى إلغاء الطائفية السياسية وبين كونه من رموز المحاصصة الطائفية في البلد، يجيب بسرعة ونبرة واثقة، كمن يريد أن يوحي بأنه ليس لديه أي عقدة في التعامل بواقعية مع هذا «الاتهام»: نعم… حين يصر الآخرون على أن يقاربوا التعيينات في الدولة، ليس فقط من باب الانتماء الطائفي، وإنما ايضاً على أساس الولاء الشخصي، فأنا لن أبقى مكتوف اليدين، وسأطالب بحصتي كاملة على قاعدة ان من حضر السوق باع واشترى، ومتى كان المعيار لدى الجميع هو الكفاءة فقط، ستراني من أوائل المتجاوبين والملتزمين، علماً بأنه سبق لي عندما توليت وزارة العدل أن ألغيت الطائفية في التعيينات المتعلقة بالوزارة على مستوى القضاة وكتّاب العدول.
ويروي بري، هنا، كيف انه دخل ذات مرة الى أحد اجتماعات «الترويكا» في عهد الرئيس الياس الهراوي، وقال لشريكيه في الحكم: إذا أردتم اعتماد الكفاءة كمقياس للتعيينات سأكون في طليعتكم وسأمزق الورقة التي أضعها في جيب سترتي، أما إذا اردتم الاستناد الى المعيار الطائفي والشخصي، فأنا لن أتنازل عن اسم واحد من الأسماء الأربعة الموجودة في هذه الورقة، وأرفض حتى ان تضعوا حرف الألف مكان التاء المربوطة في اسم هيثم جمعة.. وهذا ما حصل بالفعل.
ويلفت بري الانتباه الى أن من بين أسباب حماسته لإلغاء الطائفية السياسية هو أن من شأن ذلك ان يزيح عنه عبئاً كبيراً يُلقى على عاتقه عند الخوض في أي تعيينات، «ذلك ان الكثيرين من المنتمين الى الطائفة الشيعية يطلبون تدخلي او واسطتي للدخول الى هذه الإدارة او تلك كلما فتح باب التوظيف فيها، الامر الذي يضعني في موقف شديد الإحراج، لأن عدد المطلوب توظيفهم يكون في العادة محدوداً جداً بالمقارنة مع نسبة المتقدمين، وبالتالي مهما فعلت، فلن أستطيع ان ارضي سوى القلة، بينما سيمتعض مني كل الباقين… لقد تعبت من هذا الوضع، والأفضل ان نعتمد مقاييس علمية وموضوعية في الاختيار، تحقق تكافؤ الفرص بين اللبنانيين».
ويرى رئيس المجلس انه ليس صحيحاً القول إن البيئة الداخلية الراهنة غير مؤاتية لطرحه بعدما اصبحت تعاني من عوارض المذهبية، الى جانب الطائفية، لافتاً الانتباه الى ان هذه الحقيقة المرّة تشكل حجة إضافية لصالح منطقه، لا ضده، «كونه ثبت بالتجربة الحسية ان التأخير 60 سنة في إلغاء الطائفية قد جعلنا نتقهقر نحو المذهبية، والاستمرار في التأخير وقتاً إضافياً سيفتح الباب أمام احتمالات أسوأ».
ويوضح بري انه سبق له ان أثار مسألة إلغاء الطائفية في مناسبات عدة خلال السنوات الماضية، «مستخدماً أحياناً جرعات زائدة في خطابي، ما يعني انني ما زلت منسجماً مع نفسي ولم أخترع شيئاً جديداً». ويشير في هذا السياق الى انه نادى للمرة الاولى، من موقع المسؤولية البرلمانية والدستورية، بإنشاء الهيئة الوطنية العليا في الكلمة التي ألقاها بعد انتخابه رئيساً للمجلس النيابي عام 1992، «علماً بأن فريقاً واسعاً من المسيحيين كان قد قاطع الانتخابات آنذاك، بينما المجلس الحالي يتمتع بصفة تمثيلية أكبر تجعله يملك قابلية أوسع لتلقف مبادرتي».
ويروي كيف «تواطأ» لاحقاً مع رئيس الجمهورية الياس الهراوي لتمرير ما كان يتطلع اليه. كان الهراوي متحمساً لمشروع الزواج المدني ويسعى الى الحصول على دعم بري لإقراره، وفي المقابل كان رئيس المجلس يتحين الفرصة المناسبة لوضع إلغاء الطائفية على السكة الصحيحة. شعر كل من الرجلين انه بحاجة الى الآخر لبلوغ مبتغاه، واتفقا بعد نقاش و«مناورات متبادلة» على ما يشبه الصفقة او السلة المتكاملة: يصوّت وزراء بري لصالح «الزواج المدني» داخل الحكومة، وفي المقابل يبعث الهراوي برسالة الى مجلس النواب يطلب فيها الإسراع في تشكيل هيئة إلغاء الطائفية، (بناء على طلب بري) من أجل إعطاء دفع معنوي لهذا الهدف.
وبالفعل، تبلغ بري خلال مشاركته في حفل عشاء في منزل النائب بطرس حرب، عبر الهاتف، ان مجلس الوزراء اقر مشروع «الزواج المدني». وفي اليوم التالي، أيقظه مساعدوه باكراً في عين التينة ليبلغوه بأن درّاجاً يحمل اليه مغلفاً من القصر الجمهوري. كان المغلف يحوي رسالة موقعة من الهراوي تدعو المجلس النيابي الى العمل لتشكيل هيئة إلغاء الطائفية.
وهكذا، نُفذ الاتفاق، ولكن الرياح جرت لاحقاً بما لا تشتهيه سفن الرجلين. «الزواج المدني» وُضع على الرف بعدما رفض الرئيس رفيق الحريري التوقيع على مرسوم نفاذه، و«إلغاء الطائفية» تجاوزته الأحداث المتسارعة وبقي في الأدراج. إلا أن بري ما زال يحتفظ برسالة الهراوي، بما تمثله من وثيقة هامة، يمكن ان تدعم وجهة نظره في الوقت المناسب.
وحين يُسأل بري عن الأسباب الحقيقية التي تكمن خلف طرحه تشكيل الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية في هذا الظرف بالذات، يجيب: هناك اعتبارات عدة، من بينها ان المغتربين اصبح يحق لهم المشاركة في الانتخابات النيابية، بدءا من الدورة المقبلة، وكما هو معلوم فإن الأرجحية العددية في صفوفهم هي للمسيحيين، وهذه ضمانة إضافية، يفترض ان تريح أصحاب الهواجس الحقيقية عند مناقشة سبل إلغاء الطائفية.
وهنا، تلمع عينا بري المتوقدتين، مضيفاً: إن المسيحيين هم برأيي أكثر الشرائح اللبنانية استفادة من إلغاء الطائفية السياسية، لأن المواطنية والكفاءة هما أهم ضمانة وصمام أمان لهم، على المدى الطويل، في ظل الخلل الحاصل والمتنامي في الواقع الديموغرافي.
وماذا عن الاتهام الموجه إليك بأنك أثرت مسألة إلغاء الطائفية لإيجاد نوع من «توازن الرعب» مع ملف سلاح المقاومة والاستراتيجية الدفاعية، وصولاً الى سحبهما معاً من التداول؟ يرد بري بلهجة حازمة: لا علاقة بتاتاً لطرحي بملف المقاومة، وليكن معلوماً ان المقاومة بالنسبة لي ليست قابلة للمقايضة مع أي طرح آخر… هي خيار مبدئي واستراتيجي لا يخضع الى المساومة.
ويستطرد بري في الكلام، حيث يتوقف عند قول أحد وزراء 14 آذار بأن ذهابه الى مقر وزارته في الضاحية الجنوبية هو «عمل سيادي»، معتبراً أن في ذلك إساءة الى منطقة لبنانية، ثم يتابع متسائلا: كيف يكون مجيء وزير الى مكتبه هو نشاط سيادي، بينما وجود المقاومة للدفاع عن سيادة لبنان وكرامته هو عمل غير سيادي؟
وإذ يشيد رئس المجلس بتأكيد البيان الوزاري لحكومة الرئيس سعد الحريري ضرورة استكمال تطبيق الطائف، يتوقف عند عدم إشارته تحديداً الى وجوب تشكيل الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية، موضحاً أنه سيطلب من نواب كتلة التنمية والتحرير ان يثيروا هذا الأمر خلال جلسات مناقشة البيان

هذه التدوينة نشرت في إلغاء الطائفية السياسية, قضايا. الإشارة المرجعية.