ها نحن كنا نكبر بين صوتين، صرختنا عند الولادة وصرختنا عند النهاية وما بينهما من همهمة وحشرجة وضجيج وصمت الى حد الخرس، ثم أننا دخلنا في أبجدية الألوان، فأخذنا نرسم على دفاتر الجدران ما نريد الى أن كانت اللغة غريمة الألوان.
ففي ذات زمان ومكان، عند حدود الشاطئ اللبناني بين صور وبيبلوس، كان بحار فلاح مقيم يفكر في سياق الزمن، فولدت الأحرف الأولى بين يديه من رحم الفكرة، وتفتحت فوق اخضرار الربيع زهرة زهرة. ثم كانت صرخة يوحنا في برية الله بشارة بالاتي، فتجمعت الحروف على نفسها كلمة في البدء: الله. ثم أردنا الحب وأن نقول: أردنا أن نفهم زمزمة الماء وزقزقة الهواء وهو يشتكينا الى أمسه العاري.
أردنا أن ترى الشمس ظلنا مثل فراشة تحلّق بين سجادة القمح في الحواكير وارتعاش الصيف. أردنا أن نتم أحلامنا وأن نأخذ أشرعتنا، وهي تحمل لغتنا الأولى الى الموانئ القليلة حيث لم يكن العالم متوحشاً ومحتشداً على هذا النحو وطبعاً كان خالياً من أسلحة الدمار الشامل. وارتحلنا منذ ذلك الزمن ونحن نحمل ألف باءنا، ودّعنا الصمت الذي كان على وشك الإنفجار باللغة الأولى، واقتحمنا المياه ليس معنا بوصلة القلب والأرض التي نقصدها لنغزوها بالحرف ونفاتحها بالحب.
وها نحن في هذا الموسم، نفتتح هذه الكلية بعد أن تأكدنا أن اللغة هي الذهاب الى الحياة وهي رؤية المستقبل، وان اللغة جسر العبور الى الناس والى كل الجهات. وإنها ـ اللغة ـ هي الحضور الإستثنائي في كل احتفال للفرح، وهي تعبير المواساة وهي الحركة التي تأخذ بيدنا الى حرية التعبير وحرية الإنتماء.
بكل إعتزاز وفخر يسرني اليوم، أن أشارك هذه الجامعة العريقة جامعة القديس يوسف، في هذه المناسبة للإعلان عن إنطلاق كلية اللغات المستحدثة. إننا ونحن نؤكد على أهمية افتتاح هذه الكلية وعلى تعليم اللغات المستحدثة، لا يفوتنا التركيز على الدور اللامع لهذه الجامعة في حركة النقل والترجمة الحديثة إنطلاقاً من أن الترجمة نقلاً وتعريباً، هي جسر للتلاقي وإزالة الحواجز بين الشعوب، وهو ما يؤسس لجعل لبنان كما نحب أنموذجاً للقرية الكونية في تفاهم وتعايش الحضارات والثقافات والأديان. ونوه بدور الجامعة وأساتذة اللغات والترجمة، الذين يتميزون بموقف العالم المدقق الحريص على قدسية اللغة العربية وكرامة لغة القرآن وابتكار مصطلحات جديدة ووزنها بدقة الكيميائي وجمالية الصائغ الحريص على نفع لغتنا وإغنائها، بالإعتماد على أساليب التعريب والإشتقاق والنحت والمجاز وإدخال العربية لغة العصرنة الجديدة.
إنه لا يفوتني هنا، أن أنوّه بالضوء، والمحبة التي تشع من أمكنة الآباء اليسوعيين، من مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم التي كان لها دورها في صناعة النهضة الفكرية العربية ومواكبة الحداثة والتطور الدائم، وتجددها في تأصيل المعارف وفن إستثمارها وتقنية إدارتها التي تزاوج وتقيم أفضل العلاقات بين الإنسان والتكنولوجيا.
لقد أينع البذار الطيب للكليات المتنوعة في الأرض الطيبة بمباركة كريمة من الفاتيكان قبل مئة وسبعة وثلاثين عاماً، عندما بارك هذه الجامعة، ولعلّ أكثر ما ميّز هذه الجامعة منذ تأسيسها التنوع الثقافي واللغوى والعمل لتنمية الشخصية الثقافية للمجتمع، وتزويد طلابها بالعلوم والمهارات، وإضافة مسألة هامة هي زيادة الحس النقدي وتعزيز مبادئ الحرية واحترام الإنسان وتنمية الحوار، وهو الأمر الذي عبر عنه إنشاء معهد الدراسات الإسلامية والمسيحية، وانتشار الجامعة نحو الجنوب والبقاع وباقي مناطق لبنان.
واليوم في هذه اللحظة الضاغطة بالآلام التي يعلق فيها الشرق الأوسط على الصليب، وحيث لا يسلم لبنان من بعض الحراب، تبرز هذه الجامعة لتمثّل فسحة أمل ولتقدم هدية للوطن هي: كلية اللغات المستحدثة.
في اللغات، لا بد أن أدخل البيوت من باب أبوابها وأقصد اللغة العربية، حيث شهدت بيروت قبل ما يزيد عن شهرين المؤتمر الدولي السنوي للغة العربية، والذي انعقد تحت عنوان: اللغة العربية في خطر، ان الجميع شركاء في حمايتها، أبدأ من جامعة القديس يوسف لدعوتكم لمنع موت لغتنا الأم، والتصدي لكارثة لغوية تهدد سيادة واستقلال أقطارنا وهويتنا الثقافية والوطنية والشخصية.
وأدعو الدولة بكل مؤسساتها وكذلك الجامعات ومعاهد التعليم العالي الى تبني وثيقة بيروت الصادرة عن ذلك المؤتمر.
بالعودة الى مناسبتنا اليوم، فإن إطلاق هذه الكلية سيسهم دون شك في تعزيز فرص الإبتكار العلمي وتقديم البحث والتأمل سمعياً وبصرياً، وهي بالتأكيد ستسهم في تعزيز فرص العمل. يقول الحديث الشريف “من عرف لغة قوم آمن شرهم” وأضيف وشاركهم في عقولهم، إننا سنطل من هذه الكلية على الصين، على حضارة شعب هو الأعرق في آسيا، وهو يمثّل ثلث العالم وأعظم الإقتصاديات التي تملك سندات خزينة موقعة على أغلب الدول الصناعية ، كما سنطل على لغات أوروبية تميّزت بدينامية شعوبها الآرية والسلافية وعلى لغات احتلت موقعاً مميزاً وغزت العالم حتى أنها سادت مكان اللغات المحلية.
وهنا لا يفوتني الإنتباه الى أن اللبنانيين المنتشرين على مساحة العالم والموجودين الآن في 19 برلماناً في العالم، والذين يشكلون امبراطورية بشرية لا تغيب عنها الشمس، هم أكثر الشعوب تمايزاً بمعرفتهم باللغات، وان هؤلاء اللبنانيين يمثلون واقعاً جامعة دولية لكافة لغات الأرض، لقد تفوق اللبنانيون في كل بلدان الإغتراب والإنتشار ولم يتفرقوا عن لبنانيتهم، ولكن المفارقة هي أنهم في وظنهم عجزوا على أن يقرأوا لغة واحدة، ترى كيف يجدون لغة مشتركة ليفهموا على بعضهم فيتفاهمون؟ لذلك فإنني انطلاقاً من هذه الكلية التي تمتد على مسافة أربعين عاماً من الخبرة والإحترافية والجهد الأكاديمي في تأصيل تعليم اللغات وعيش حضارتها ـ من هذا المكان ـ الرائد في صنع المبادرات الأكاديمية، أدعو الى تأسيس ربيع لغوي نلتقي حوله حتى نعرف ماذا نتكلم وكيف ومتى نتكلم، ومتى يكون السكوت من ذهب. سوف أخرج عن الإطار التربوي لأقول أن الديمقراطية والحرية والحوار وقبول الآخر والحكم الرشيد، يجب أن تكون أولاً صناعة وطنية، وان هذه العناوين تحتاج الى تربية على مسافة المنطقة وعلى مساحة شعوبها، وإلا فإننا سنحصد نتائج عكسية لديمقراطية لا تمثل نهج حياة وليست متأصلة في تربيتنا، ولحرية غير محكومة الى حدود القانون والى دولة مدنية إذا لم تكن محكومة بالعسكر، فإنها ستكون محكومة للحرامية.
إننا وكما تمكنّا في المجلس النيابي من إنشاء أول معهد عربي للتدريب البرلماني والدراسات التشريعية، أدعو الى زيادة الإستثمار على وجود نحو خمسين جامعة ومعهداً للتعليم العالي في لبنان عبر صياغة مناهج للتربية على الديمقراطية والحوار ومكافحة الفساد، وجعل هذه الجامعات مفتوحة أمام الطلاب العرب لإكسابهم الخبرة اللازمة لشعوبنا لإدارة مصيرها.
إن كل تلك العناوين باتت علوماً عصرية، وهي لا تخص سلطة الرقابة الإدارية أو البرلمانية وحدها، بل إنها تعني مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الشعبية، كما أنني في هذه المناسبة التربوية، كما في كل مناسبة تربوية، فإنه لا يفوتني زيادة المطالبة بتشكيل مجلس أعلى للتربية ينسف بين ناتج التعليم العالي وحاجات أسواق العمل، مرة أخرى لا بد من تشكيل هذا المجلس، وإلا سوف نبقى نخرّج شباباً عليهم دمغة صنع في لبنان، ولكن للبطالة لا للعمل.
قبل أن أختم لا بد من توجيه انتباهكم انطلاقاً من هذا الصرح العلمي الى أن دول المنطقة تقع الواحدة تلو الأخرى في كمين تبديد قوتها الإقتصادية والسياسية والعسكرية، ويزداد داخلها الشرخ الإجتماعي والإنقسام الطائفي والمذهبي والعرقي، وتزدهر برامج لثقافة التطرف وتحول كياناتنا الى زواريب محكومة الى السلاح، لقد وصلت مختلف دول المنطقة الى لحظة الإنكسار ودخلت نفقاً مضطرباً وقلقاً، نأمل معه أن تتمكن مصر من عبور استحقاقاتها الدستورية، بما يؤدي الى ترسيخ وحدتها وتنوعها واستقرارها، وأن تتمكن سورية من بناء وصنع سلامها وإدارة حوار منتج حول المستقبل، وأن يتمكن الأشقاء الفلسطينيون من استعادة وحدتهم بما يمكنهم من إفشال مخطط تهويد القدس وإسقاط مشروع صهينة كيان العدو واستكمال تشريد عرب الأرض المحتلة.
ان لبنان في واقع المنطقة المضطرب المتوتر والقلق والمحكوم الى استراتيجية الفوضى البناءة، يحتاج دائماً أولاً وآخراً في أول الليل وآخره الى تقوية عناصر وحدته الداخلية وتعزيز سلامه الأهلي والتفاهم على مخطط استراتيجي للتنمية المستدامة، تجعل من الإدارة استمراراً، ليس كل مرة تأتي حكومة نختلف لمن نعطي هذا المركز أو ذاك.
إنني ومن على منبر جامعة القديس يوسف أعلن باسمي وباسم مجلس النواب ترحيبنا الشديد بالزيارة المنتظرة في شهر أيلول لقداسة البابا بنديكتوس السادس عشر والتي ستعيد الشرق انطلاقاً من لبنان مساحة للشركة والشهادة ومنارة مشعة للمحبة الخالصة. وأستعيد لحظة رجاء للتذكر بخالص الأمل الزيارة التي لا تُنسى لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني الذي أطلق الإرشاد الرسولي رجاءً جديداً للبنان.
أخيراً أجدد شكري لرئيس الجامعة وإدارتها على هذا الإنتباه لأهمية اللغة في حياتنا، ليس لأنها وسيلة التواصل الأساسية بين الناس فحسب، بل لأنها تعكس نمطاً حضارياً يختص بالناطقين بها ونسق تفكير خاص، ومن هنا فإن تعلّم اللغة يعني التمكن من وسيلة تواصل، بل أساساً للدخول الى عقل تلك اللغة الى داخل تفكير شعب معيّن. إننا متأكدون أن هذه الكلية ستزيد من خارطة لبنان في العالم ولدى شعوب كثيرة لما فيه خير لبنان.