يطلع من غامض النهر حتى لا تسكنه حرقة ولا ينطفئ كالرماد،
ويتبع زقزقة الماء إلى حيث يهمس الورد بلونه وعبيره.
وأنه رجل يموت، حاول أن يكتب على ضفتي روحه التي سكنت النهر أشجاراص وأطياراص وأضواءً وأفراحاً.
حدثني زملاء على مقعد الدراسة كيف كان يرتجف حين تأتي الفكرة، فيركض إلى غدنا حاملاً أوراقه وخرائطه وفرحه المغامر وحسراته، إلى مسلخ الدولة التي تذبح المشاريع وتطرحها ملفات ميتة على الرفوف.
حدثني زملاء كيف كان ينصرف الوطن إلى ليله وجنوبه، وكيف كان هو وحده يقترب من الضوء. كيف كان الوطن ينصرف عبر مشاغل النزوات،
وكيف كان يرحمه الله يقترب من الماء والله.
كان بينه وبين الآخرين وطن يموت وكانوا غير مبالين،
يتزاحمون على الهجرة أو على ضريبة الحزن.
وكانوا مبعثرين، يتسترون بالأقنعة ويتكاذبون.
وكان هو يتوجه كالمصباح ويغني كالماء كي لا يموت الوطن: لبنان أنت حديقتي وأحب فيك الزهر والإنسان والألوان.
كان إبراهيم
عبدالعال يصدع بالذي يأتي ولا يتهيب الظلمات
بعض الذين ادركوا ما يريد أنهم سمعوا من يبكي عليه، لأنه ربما قد أصابه مس فهو يريد أن يخرج ضوءً من طواحين الماء، وبعضهم أخذ بعضه وانصرف كأنه انتهى من ذكريات الماء.
وكان هو يرى جواباً يسترد الليل من أكنانه.
وكان هو يستأذن الينابيع إلى معابرها الشفيفة لعلها إذا عادت إلى منابعها لا تعود إلى الإبتعاد عن مرمى عطشنا.
وها نحن ومرة جديدة ككل عام، نجتمع إليه تلامذة وزملاء وأصدقاء في محاولة لترميم الذاكرة الوطنية حول شخصية فذة وهبت حياتها من أجل مستقبل شعبها ورفاهيته.
مرة جديدة نقف منتبهين إلى أن أول من أطلق مصطلح الأمن المائي كان كبير المهندسين العرب المرحوم ابراهيم عبدالعال، ويومها كانت حمى النكبة تضرب الكيان العربي الذي تحول إلى صحراء تزدهر باللاجئين الذين لم يصدقوا أن وطنهم يسلب منهم على هذا النحو، وإلى صحراء تزدهر بالقبائل التي تأبى أن تصدق أنها تقف على رمال متحركة وتعتقد أنها تقبض على التاريخ وهي تنام في الماضي.
كان إبراهيم عبدالعال آنذاك يقول كلاماً فوق ما يمكن أن يجمع إليه الخيال، وكانت الناس تتطلع إلى مجنون النهر الذي يعتقد أن بإمكانه أن يخرج نوراً من الماء، وأن بإمكانه أن يشفي الغليل وأن يطفئ عطش الدهر وأن يقيم الواحات.
كانت الناس تتطلع إليه على أنه حالم أكثر من اللزوم، وكان عدونا وحده الذي فهم ابراهيم عبدالعال، وحده الذي قرأ كتاب النهر وكتاب مزارع شبعا يدرك أن هذا المهندس القادم من بيروت قد وضع يده على جرح الجنوب، وأنه قادر على التأسيس لإزدهار الإنسان في لبنان.
كان ابراهيم عبدالعال وحده من عمد أحلامه بالنهر ومشى على الماء، كل طريق توصله إلى عقد ندوة أو نشر بحث أو وضع خريطة أمام المسؤولين لإيقاظ إحساسهم ولكن لا حياة لمن تنادي.
ومرة بعد مرة استمر ابراهيم عبدالعال يبشر بالماء، ولكنهم اختصروا الحلم- البشارة بوضع علامات على المنسوب الممكن، كأنه كان لا يسمح للبنان بتجاوز عقدة الليطاني الإسرائيلية.
لا ننكر أنه تم تنفيذ بضعة مشاريع: مشروع ري القاسمية، رأس العين، سد بحيرة القرعون، جر المياه بواسطة أنفاق من القرعون حتى نهر الأولي، ثلاثة معامل لإنتاج الكهرباء وحقول تجارب زراعية ومشروعالري من بركة أنان.
وأعرف أن في الحاضر والمستقبل مشاريع قيد الدرس والتنفيذ من ري البقاع الجنوبي إلى مشروعي سد بسري وسد ماسا، وكذلك مشروع الإنماء الزراعي للبنان الجنوبي ومشروع سياحي بمحيط بحيرة القرعون وإنشاء سد الخردلة على الليطاني الأوسط.
أعرف كل ذلك ولكن هل هذه هي إمكانيات الليطاني فقط؟
يضحك ابراهيم عبدالعال من شدة حزنه وهو يعرف أننا نملك الجواب في حكايته عن النهر أن لبنان هبة الليطاني كما أن مصر هبة النيل
إن الحل الشامل لأزمة المياه والطاقة الكهربائية يكمن في كتابات وأبحاث وتنبؤات ووصايا ابراهيم عبدالعال. فتعالوا معي لنستعيد من كتاباته وأبحاثه عن طاقة لبنان الكهربائية.
فقد رأى ابراهيم عبدالعال أن إمكانيات الليطاني الهائلة لا تقتصر على حل قضية المياه لثلث الجمهورية اللبنانية، بل ان إمكانيات هذا النهر تتجاوز ذلك إلى:
1- وسيلة من الوسائل الناجعة للعمران والإجتماع والإقتصاد.
2- تخزين المياه الشتوية في حوض النهر واستعمالها لتوليد الطاقة الكهربائية.
3- الإستفادة من النهر لبناء صرح صناعي.
إن الليطاني لهذا (يقول عبدالعال) جدير بقسط وافر من الإهتمام، ويقتضي إثارة الدعايات لإظهار قوميته التي يجب أن يسود من جرائها في أذهان الجمهور الإعتقاد بأن تجهيزه هو مشروع قومي، وإن التباطؤ في تنفيذه إبخاس وخيانة في حق الوطن. لم يستمعوا إلى ابراهيم عبدالعال وساروا في الطريق المعاكس لمصلحتنا القومية وزادوا الأعباء على المحطات الحرارية، وكان المقصود ترك الليططاني يشربه البحر لتمكين إسرائيل من الإدعاء بأنها كفيلة بتأمين إستغلال مياهه للري وإنتاج الكهرباء بما يخدم مصلحة المجتمع.
هل أبالغ في الإتهام؟
أم أني إداري في توجيه أصابع الإتهام
قرأت في نصوص للإمام الصدر منذ خمسة وعشرين عاماً أن صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية قد رصد مبلغ خمسين مليون دولار لإنشاء مشاريع على نهر الليطاني، ثم تاهت مني الذاكرة إلى أن زار لبنان مؤخراً سمو الأمير عبدالله بن زايد وذكرنا بالهبة، عندها زادت تساؤلاتي: هل أن هناك مسؤولين في عهود سابقة تعمدوا أن لا يتجاوزوا خطوطاً إسرائيلية حمراء في تنفيذ المشاريع الخاصة بإستثمار مياه الليطاني؟
وهل أن هناك سقفاً دولياً يرسم حدوداً لإستغلال المياه وتوزيعها وفق مخططات ليس أقلها مشروع جونسون ومشروع كوتون.
وهل أن طمس مشروعات ابراهيم عبدالعال الخاصة بالليطاني بعد وفاته أو استشهاده، وكذلك إخفاء الخرائط الجيولوجية التي وضعها للبنان المهندس الفرنسي دوبير تيريه بناء لطلب عبدالعال والتي يعاد تكوينها الآن، يقع في إطار التواطؤ على مستقبل الليطاني؟
وإزاء هذه التساؤلات والقلق على المصير التي تحمله في طياتها، أسارع إلى جواب بعد كل تضحيات شعبنا ومقاومته أن الليطاني لن يبقى بعد الآن لعنة على لبنان وعنواناً لإجتياحات إسرائيل.
وان الليطاني لن يبقى نهراً مسحوراً نلمسه ولا نحسه.
وأن الليطاني لن يبقى يترقرق كصرخة وليدة تذوب في الفراغ.
وأقول بأعلى الصوت أن كفاح شعبنا لتحرير أرضه من دنس الإحتلال سيكون ويجب أن يكون أشد ضراوة من أجل الإستثمار على الليطاني.
وأقول بأعلى الصوت أن شعبنا لن يسمح بالتالي بإغتياال التراث الضخم للعبقري ابراهيم عبدالعال ومشروعاته.
لقد سبق وطالبت العام الماضي بوضع دراسات وأبحاث العالم المهندس ابراهيم عبدالعال على طاولة فخامة رئيس الجمهورية العماد إميل لحود، وعلمت أن جمعية أصدقاء فقيد لبنان قد زارت فخامته وأهدته بعضاً من موسعة أفكاره.
إنني واثق أن فخامة رئيس الجمهورية والحكومة، مهتمان بشدة بإيجاد السبل لحماية ثرواتنا وزيادة ناتجنا القومي والتخفيف عن كاهل المستهلك، خصوصاً فيما يتعلق بالمياه كوسيلة للحياة أو كقوة إنتاج في شتى المجالات.
وإني أتوجه إلى فخامته وإلى الحكومة من أجل إطلاق الفعاليات للإستثمار على هذا النهر إنطلاقاً من:
1- دراسته ومعالجته كوحدة كاملة لا تتجزأ، وضمناً دراسة حوض النهر إستناداً إلى أبحاث ابراهيم عبدالعال.
2- دراسة العمل الإنشائي على هذا النهر، ووضع التصاميم الصحيحة بقصد التوصل إلى أقصى حد من الإستفادة به.
3- وإنني متأكد سلفاً من أن هذه الدراسة ستثبت أنه مشروع إنشائي تتوافق اكلافه مع إقتصاديات قوة إنتاجية.
واختصر عل الإستنتاج سلفاً إستناداً إلى من نحتفي به اليوم، بأنه بالإضافة إلى إمكانيات الليطاني في ري سهل البقاع الجنوبي وتأمين المياه لجميع قرى جبل عامل، وري السهل الممتد من صور وصيدا وصولاً إلى تأمين مياه الشرب للمناطق الساحلية ومنها مدينة بيروت- بالإضافة إلى ذلك إنتاج طاقة كهربائية وفيرة ورخيصة الثمن، تكفي لإمداد جميع المناطق اللبنانية توفر علينا أولاً أن نقع تحت رحمة تأخر وصول بواخر المحروقات السائلة لأسباب إدارية محلية تعبر عن إدارة الإحتكار كما حصل في بيروت بالأمس ولقد قالوا لي ان ذلك مقصود به الجلسة النيابية في الجنوب.
أيها الأعزاء
اسمحوا لي أن أعود بكم قليلاً إلى ساحة إنتصارنا في الجنوب، لأسجل أن الأهم من النصر بدحر الإحتلال هو المحافظة على الإنتصار، وأقول أن أهلنا والمقاومين كانوا عند حسن الظن وعلى مستوى المسؤولية الوطنية في تفويت الفرصة على العدو الذي اعتقد أن المناطق المحررة ستقع ضحية تصفية الحسابات.
إن شعارنا الوحيد كان تصفية الحساب مع الإحتلال الإسرائيلي وتحرير أرضننا والتأكد من الجلاء التام للإحتلال الإسرائيلي وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 إلى خلف الحدود الدولية براً وبحراً وجواً.
وما يجب أن يكون مفهوماً بالتالي، هو أننا دفعنا غالياً ثمن تمسكنا بالشرعية الدولية وإثبات مصداقيتها وإثبات أن إسرائيل لا تمثل إستثناء لا تطبق عليه القرارات الدولية.
أما وقد سلكت الأمور الطريق لتنفيذ الحكم المتمثل بالقرار 425 الصادر عن اعلى سلطة دولية، فإننا فرحون لأننا استطعنا الإنتصار للأمم المتحدة وفتحنا الباب واسعاً أمام وضع قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بالمنطقة موضع التطبيق، لأن هذا الأمر يشكل الطريق الوحيد لصناعة وبناء السلام العادل والشامل.
إننا إنطلاقاً من ذلك نرفض محاولة إسرائيل تحميل لبنان وسوريا مسؤولية أي تطور والتهديدات بضرب المنشآت الحيوية في لبنان، بل إننا نوجه عناية البعثات الدبلوماسية في لبنان خصوصاً عناية الدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن غلى أن إسرائيل لم تعدم وسيلة للإنتقام من لبنان ومن سوريا في لبنان بعد إندحار جيشها وإنهيار عملائها.
وأذكر العالم أن إسرائيل إجتاحت لبنان 1978 بعنوان عملية الليطاني إنتقاماً من عملية فدائية وقعت على شاطئ تل أبيب، وأنها اتخذت من محاولة إغتيال سفيرها في لبنان عام 1982 مبرراً لإجتياح لبنان ودك بيروت 82 يوماً.
إن إسرائيل تريد إحلال القلق مكان التوتر ولديها مؤامرة جديدة لإيقاع الفتنة بين لبنان وسوريا من جهة وبين الأمم المتحدة من جهة ثانية والعنف الذي ساد جنوب لبنان بفعل اعتداءها واجتياحها وتريد ان تحيد إمكانية تنفيذ القرار 425 بالشك لإعادة هذا الخلاف بين اللأمم المتحدة وبين لبنان وسوريا.
وأقول أن المقاومين ضبطوا أنفسهم وهم يرون أبناء شعبهم الذين أخذتهم العاطفة يقتلون بنيران الطائرات والمدافع الإسرائيلية يوم الإثنين في الحادي والعشرين من أيار وأن المقاومة أكثر حرصاً من كل العالم على إغلاق الأبواب خلف الجيش الإسرائيلي خصوصاً وأنه للمرة الأولى يخرج هذا الجيش ذليلاً مندحراً يجر أذيال الخيبة والشؤم.
أيها الأعزاء
وبالعودة إلى المحتفى به ابراهيم عبدالعال فإن نظرته الوطنية الثاقبة إلى موارد لبنان المائية لم تنحصر بالليطاني، بل تابع المشروعات الكفيلة بإطلاق المارد اللبناني من قمقم الإنفراد الإقتصادي ورسم مشروعات من أبرزها ري سهل بعلبك من مياه اليمونة وري سهل الهرمل القاع.
فقد أجاب عبد العال على تلك الأسئلة: ما هي حاجات السكان وطاقة إستهلاكهم؟ هل تنبت الأرض ما يكفيهم من القوت؟ هل نحن مفتقرون إلى توجيه زراعتنا وصناعتنا في خطة مرسومة ؟ هل نحن سائرون إلى سياسة إنكماشية؟ إلى آخر من كل تلك الأسئلة. ان من طرح هذه الأسئلة طرح الحل:
إن نهر الليطاني هو مفتاح مستقبل لبنان، أصحت قنينة الماء الآن في أكثر البلدان العربية أغلى سعراص من البترول، هل ترانا بعد هذا الإنتصار نتجرأ على تجاوز خطوط إسرائيل الحمراء بالنسبة لثروتنا المائية، ام ترانا نبقى نجاهر بفاكهة العطش ونواصل سلوك الدرب إلى التصحر؟
إنني على يقين أن سيد العهد والمجلس النيابي والحكومة والشعب اللبناني يستطيعون اتخاذ المبادرات والقرارات الصعبة التي تأخرت أربعة عقود على الأقل وأن يؤسسوا لإزدهار الإنسان في لبنان.
قبل أن أختم، ووفاء لإبراهيم عبد العال، فقد أعطيت التوجيهات للجنة الوطنية لإحياء الرابع عشر من آذار والثامن من نيسان والتي ستكون مهمتها بعد التحرير إحياء كل ذكرى تتصل بكارثة وبطولة شعبنا ورموزه الوطنية المقاومة عسكرياً وإنمائياً وفكرياً من أجل طباعة الكتاب الذي أعده طلاب جامعة الكسليك والمخصص للإطفال، والذي يروي حكاية الليطاني وابراهيم عبدالعال لحساب لجنة أصدقاء ابراهيم عبدالعال ومساهمة مخلصة في نشر تراثه وتعميم وعي حول ثروات لبنان.