ها نحن نستكمل تفسير ذلك الحلم الذي حمله إلي ذات يوم المهندس اللبناني أمسيان.
أتذكره وهو يتحدث إلي ونحن في غمرة انشغال، بأن نتمكن من صنع وبناء سلام لبنان، ونحن في حال من القلق من عدوان إسرائيلي محتمل يهدف لقلب الطاولة.
كان ذلك الحلم يتملكه وهو يتحدث بحماس، الى درجة انه استحوذ عليّ ورأيتني مسحوراً بحلم الماء.
كان أمسيان يتحدث عن بحيرة عائمة على عمق من الارض.
كان خفيض الصوت وهو يهمس بسره، ويفتح خرائطه التي تحمل علامته المؤكدة لكنز الماء.
لا أنكر أني تحيرت قليلاً في البداية لأنني وكل أبناء عمق الجنوب المحكومين بشهوة الماء يحفظون هذا المكان عن ظهر قلب، ولم تدغدغ مشاعرنا ولا مرارة عطش كربلائنا مرة واحدة أي حكاية او اشارة الى احتمال الماء.
كانت الكذبة تغرغر في حلوقنا، وكان سراب الماء في شبكات مياه المشروع يضحك على ذقوننا، وكانت الحكومات تتفنن في تأليف مصالح المياه فتتكاثر الادارات ونبقى على عطشنا، فنهدد بالاضراب ونلجأ اليه ثم يغلبنا حرصنا على استقرار الموقف على ناصية حدودنا، فنشهر عطشنا ونصمد حتى لا تتكاثر علينا (اسرائيل) والعطش فننغلب على امرنا.
كان صمودنا على عطش ومقاومتنا على عطش وزراعتنا على بعل.
كانت دمعة الماء تسبق العاتول على اغراس شتلات التبغ، وكانت دمعة ماء يتمية تفتح باب الموسم امام بزر الزراعات البعلية، وكنا ننتظر ولازال بعضنا ينتظر وما بدلنا تبديلا، حيث لا زال اكثر من نصف قضاء بنت جبيل رغم وصله واتصاله بمشروع رأس العين وباتوليه ينتظر تارة وجود التيار الكهربائي للضخ وتارة تحويل المياه، ولا زال الناس في اغلب المدن والبلدات والقرى المعلقة على شريط حدود الوطن ينتظرون تحديث مشروع الطيبة واعادة وصله بالمنطقة، مع العلم ان المخطط موجود والاعتماد المالي موجود ومدة التلزيم محددة بثمانية عشر شهراً، وقد انقضى على التحرير خمسين شهراً فمن هو المسؤول عن عدم اعطاء الاشارة لبدء التنفيذ؟
اعود الى ذاكرة ذلك اليوم عندما زارني المهندس أمسيان، فقد شعرت وكأن كبير مهندسي العرب المرحوم الشيهد ابراهيم عبد العال يحثني على المغامرة، وكنت انذاك على رأس وزارة الجنوب فأعطيت الاشارة للمبادرة بتنفيذ القسم الاول من المخطط، حيث تمكنا من تحرير الارض ووصلت المياه الى سبع وستين بلدة وقرية، ثم كانت المبادرات المائية على مساحة الجنوب والبقاع الغربي من: آبار فخر الدين الى لوسي وتفاحتا وباتوليه، وكان مشروع الليطاني حلم الامام الصدر على رأس اولوياتنا وهو المشروع الذي حملناه الى دولة الكويت الشقيقة، والتي اعلن اميرها انه يتبنى دراسة المشروع وتنفيذ الجزء الاول منه والمتمثل بـّري الضفة الجنوبية للنهر، ونأمل ان لا توضع عراقيل محلية او اجنبية لتحويل هذا الحلم الى كابوس.
والآن وعود على بدء، ها نحن نفتتح المرحلة الثانية من هذا المشروع الهادفة لدعم امكانيات مشروع مياه وادي جيلو، انطلاقاً من الواحة الخضراء يانوح بلدة الشهداء علي محمد حيدر وعلي رضا حسين وحسين جابر وعلي موسى طعمه وجنبلاط جابر، وهذا المشروع انجزه مشكوراً مجلس الجنوب، ويهدف لتغذية منطقة غرب محطة وادي جيلو الى محيط البازروية وبرج الشمالي نزولاً حتى المساكن وشمال منطقة وادي جيلو، مروراً بدير قانون والعباسية وبرج رحال حتى منطقة السكرة على الطريق الساحلي، وايضاً تعويض عجز المحطة القديمة عبر تجهيز آبار جديدة ومحطة ضح مركزية وخزان للتوازن، كل ذلك على ضوء التطور السكاني.
ايها الاعزاء، بشكل مقصود تجاوزت عند ذكر العلاقات المائية مشروع الوزاني من اجل ان اتمكن وفي هذه اللحظة السياسية التي تتصاعد فيها اللهجة العدوانية والتحديات الاسرائيلية من المسجد الاقصى الشريف الى الضفة وغزة ورفح الى الجنوب وسوريا وايران، من ان انطلق من هذه النقطة بالتحديد من اجل ان اذكر الجميع ان وحدة الموقف اللبناني الرسمي والشعبي والموقف العربي والاسلامي الذي اصطف خلف وحدتنا الوطنية خلال مسالة الوزاني، جعلت اسرائيل تتراجع واستطاع لبنان ان يسجل انتصاره الاول دفاعاً عن حقوقه المائية.
واليوم نحن ازاء نفس العدو الذي لا يقيم وزناً للقرارات الدولية ولا للقانون الدولي، والذي ضرب بعرض جداره الفاصل إجماع الجمعية العامة للامم المتحدة على ادانة اجرامه العنصري والرأي القانوني القاطع لمحكمة الدول الدولية، فإزاء هذا العدو وإزاء صورة المشهد الدموي الذي يخلفه وراء عملياته العسكرية ضد الشعب الفلسطيني، ووراء عمليات الارباك الامني التي تستهدف لبنان عبر عمليات الاغتيال، والتي تستهدف العالمين العربي والاسلامي وفي الطليعة سوريا والعراق وايران، فإنني ادعو الى قراءة دقيقة ومتآنية للاحداث على خلفية التهديدات والمصالح، والتي ستوضح ان الاصابع الاسرائيلية تحاول تعميم الفوضى والتوتر، وان تحكم ردود الافعال وان تجعل المنطقة تعيش حالة من التوتر مستثمرة لتحقيق غاياتها مساحـة الوقت الفاصل عن الانتخابات الاميركية.
إنني ادعو اللبنانيين في هذه المرحلة السياسية وازاء الاستحقاقات المحلية والاقليمية والدولية، الى التوحد خلف الثوابت الوطنية التي تشكل المقاومة طليعتها بإعتبارها ضرورة لبنانية طالما ان اسرائيل لا تزال تحتل اجزاء عزيزة من ارضنا، وطالما لم تتراجع عن اطماعها في ارضنا ومياهنا، وطالما تواصل خروقاتها الجوية والبحرية لحرمة سمائنا ومياهنا الاقليمية.
ان الوحدة الوطنية كانت ولا تزال عنصر القوة المعنوي والمادي لمقاومتنا، وهذه المقاومة التي تتشكل عناصرها من افراد الشعب بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم وجهاتهم، يجب ان تشكل الالتزام السياسي الثابت لأي استحقاق، كما ان الجنوب الذي يشكل خط تماس التاريخ والجغرافيا مع قضية المنطقة يجب ان يشكل الاستثناء الوطني في تعزيز صموده عبر تنميته وتعويضه سنوات العدوان والاحتلال الاسرائيليين طيلة نصف قرن، وكذلك الاهمال والحرمان طيلة عهود.
هذا على المستوى المحلي اما على مستوى المنطقة فإني استغرب ان يقع الاشقاء الفلسطينيون في فخ الجدل حول اوليات السلطة ومهامها في ما تتهدد الاخطار المسجد الاقصى وتمضي اسرائيل في مخططها الدموي لتصفية وسائل حياة وصمود الشعب الفلسطيني.
ان الوحدة الوطنية ووحدة الفصائل الفلسطينية خلف الاماني الوطنية للشعب الفلسطيني يجب ان تحكم الجميع في ادارة اتفاقاتهم واختلافاتهم، ومن كانت اسرائيل عدوه فهي عدو كاف، مما يعني ان على الجميع التفرغ لمهمة واحدة هي رد العدوان الاسرائيلي وعدم افساح المجال لتحويل الانتباه عن جرائم الحرب الاسرائيلية، وعن التحدي الاسرائيلي للرأي العام الدولي الذي تمثل بإجماع الجمعية العامة للامم المتحدة على ادانة مشروع جدار الفصل العنصري الى حرب السيطرة على المخافر والاجهزة الامنية.
ومن سوريا والعراق وتركيا ولبنان الى ايران والسودان، فإني ادعو الى الوحدة بمواجهة حرب السيطرة التي تأخذ شكلاً وطابعاً مختلفاً من مكان الى مكان، حيث تتدرج تارة تحت ستار منع ايران من المضي قدماً في انتاج اسلحة نووية، او اتهام سوريا بإمتلاك اسلحة دمار شامل، او محاولة عصر السودان من مختلف الجهات وتقطيعه جهوياً، الى استنزاف العراق على النحو الجاري بشرياً ومادياً وجعله حقل تجارب لمحتله.
انني اذ اعدو الى ترسيخ الوحدة الوطنية داخل اقطارنا، وترتيب اولياتنا انطلاقاً من مواجهة التحديات والتهديدات، فإنني ادعو على الصعيد المشترك الى توحيد مبادراتنا وطاقاتنا على مساحة الشرق الاوسط الكبير المستهدف بحرب السيطرة
ايها الاعزاء، بالعودة الى لبنان وبعد جولة اليوم التي تثلج الصدر في هذا الصيف الحار لافتتاح مشاريع تربوية في عدلون، البرغلية، طورا، الحميري، باريش، المجادل، حانين وعلما الشعب واخيراً هذا الموعد مع الماء، فإنني ادعو وزارات وادارات الدولة الى الاقتداء بمجلس الجنوب وترجمة حضورها المسؤول في القيام بمهامها، خصوصاً وان متطلبات فصل الشتاء والاستحقاق المدرسي القادمين بسرعة تضغط على جمهور النـاس ربما بقدر اكبر ممـا يضغـط أي استحقـاق آخـر،
كما ان المشروعات المقررة خصوصاً تلك المرتبطة بتجهيز المستشفيات واستكمال الاوتوسترادات ووصلات الربط بين الاقضية والبلدات وطريق صور الناقورة لا يمكنها ان تنتظر الى ما لا نهاية، انني وبمناسبة الحديث عن انجازات مجلس الجنوب وجعله انموذجاً للعمل الحكومي، اوجه عناية الجميع ان المشاريع التي تفتتح اليوم تربوية ومائية هي مشاريع تعود ملكيتها للدولة كمؤسسات وكإستثمار، سواء في حقل التعليم الذي اصبح اكبر صناعات العصر او في المجال المائي، ومجلس الجنوب والحالة هذه يعيد ضخ الاموال لخزينة الدولة اذا احسنت الوزارات المختصة ادارتها، حيث لا اكشف سراً ان قلت ان احداً لم يتسلم من مجلس الجنوب مثلاً ادارة مشروع باتوليه المائي، ولم تجر مبادرة لوصله بالتيار الكهربائي المنتظم، وفي كل الحالات اننا نجتمع على الماء فإن السؤال الاهم المطروح على حكومتنا هو ما مدى التزامها بمقررات القمة العالمية للتنمية المستدامة التي دعت الى وضع خطط الادارة المتكاملة للموارد لمائية بحلول عام 2005؟
هل ترانا انتبهنا الى ان الوطن العربي ولبنان يقعان تحت خط ازمة مائية حقيقية يعاني منها الكثير من مواطنينا؟
هل ان المسؤولية الحكومية تضع في اعتبارها انه بدون موارد مائية كافية وبدون خطط لادارة متكاملة لموارد المياه ليست هناك تنمية ولا تقدم
هل ترانا نجاري الاقطار العربية في تقدمها الملموس في وضع استراتيجيات وسياسات مائية حول تنمية الموارد المائية المتوفرة، وترشيد استخدامها والمحافظة عليها وحمايتها من التلوث والتدهور والنضوب؟
هل ترانا حددنا ما هي المعوقات والتحديات التي تواجهنا، ام هل ترانا سنعتذر او نتحجج بعدم توفير التمويل اللازم؟
هل ترانا تمكنا من الاستثمار على الوقت من اجل تعويض النقص في الموارد البشرية المؤهلة والمدربة على توفير المعلومة ذات المصداقية في المجال المائي؟
هلى ترانا انتبهنا الى معدلات النمو السكاني مقابل التلكؤ في وضع الخطط للادارة المتكاملة للموارد المائية؟
هل ترانا اسسنا لنشر وعي لدى المواطنين حول اهمية المياه واستخدامها، وقطعنا أي خطوة على طريق وضع قواعد ومعايير دقيقة واسس علمية رشيدة لاستخدامات المياه في شتى المجالات؟
واساساً هل ترانا سلكنا الطريق لايجاد هيكلية مركزية قادرة على تحقيق وتنفيذ متطلبات التنمية والادارة المتكاملتين للموارد المائية؟
الحق اقول للحكومة: ان الادارة الرشيدة للموارد المائية تعتبر الاساس لحل ازمة المياه والى الوصول الى تنمية مستدامة لهذا المورد اله.
واقول انه آن الاوان للتعلم من تجربة اقطار شقيقة في:
أ – تجاوز تعددية الهياكل المؤسسية لادارة الثروة المائية.
ب – احداث آليات تنسيق بين كافة الهياكل المؤسسية المسؤولة عن القطاع المائي تضطلع برسم السياسات المائية وتضع الاستراتيجيات والخطط المتعلقة بتنمية الموارد المائية واستخداماتها.
ج – في وضع استراتيجية من خلال مشروع تخطيط وادارة الموارد المائية.
انني في اطار ما تقدم ادعو الحكومة واللجنة البرلمانية المختصة الى المبادرة لاطلاق مشاريع واقتراحات قوانين لتشريعات مائية لتنظيم استخدام المياه في حدود الموارد المتاحة وتحديد الملكية العامة لها، وللمنشآت المرتبطة بها، وحمايتها من التلوث، وتوزيع المسؤوليات والاختصاصات على الجهات المشرفة على ادارتها وتنظيم العلاقة بين هذه الجهات على ان تكون هذه التشريعات متناسبة مع المفاهيم المتطورة للتنمية، وادارة الموارد المائية حتى يتحقق اكبر قدر من الكفاءة في تغطية الاحتياجـات المائية المتزايدة لقطاعات مياه الشرب والـزراعة والصناعة.
ان فترة الحرب الاهلية وكذلك الاحتلال الاسرائيلية افسحت في المجال مثلاً لحفر آبار ارتوازية بشكل عشوائي مما شكل اعتداء صارخاً على الثروة المائية الجوفية الوطنية.
انني ادعو الى مسح شامل لهذه الآبار والى تركيز التشريعات على وضع مواصفات للآبار وحفر الآبار والضخ والمسافة بين الآبار بناء على دراسة تفصيلية تقوم بها الوزارة المختصة، كما ادعو الى وضع عدادات مياه على جميع الآبار لمراقبة دورية لكمية الضخ في الساعة والحد الاعلى لكميات المياه المصرح بإستخدامها في فترة زمنية محددة.
إنني كما ادعو على المستوى الوطني اللبناني الى ايلاء موضوع المياه الاهمية القصوى، فإنني اتوجه بنفس الدعوة على الصعيد العربي والعمل على صياغة استراتيجية عربية فاعلة تحمي الحقوق المائية العربية.
في هذا الاطار لا بد من الملاحظة:
اولاً: ان اصرار اسرائيل على التمسك بإحتلال مزارع شبعا اللبنانية هو بسبب البعد المائي كما البعد الاستراتيجي، حيث تقوم اسرائيل بسرقة المياه من الينابيع الغزيرة في تلك المزارع.
ثانياً: ان السياسة المائية الاسرائيلية بالنسبة الى الضفة والقطاع تجسد منتهى التعسف والعنصرية، حيث ان سلطات الاحتلال تستأثر بجميع مصادر المياه السطحية والجوفية المتاحة، وقد منعت اسرائيل الفلسطينيين منذ عام 1967 من تطوير اراضيهم الزراعية وجعلتهم يدفعون ثمن المياه المستخرجة من ارضهم والتي يستهلكونها سواء في الشرب او الري خمس اضعاف ما يدفعه المستوطن الصهيوني.
ثالثاً: ان البعد المائي يحكم الغرائز الاسرائيلية العدوانية في استمرار احتلال الجولان العربي السوري.
انني في هذا الاطار ادعو الى تفعيل دور معهد الامن المائي العربي الذي اقامته جامعة الدول العربية في دمشق، كما ادعو الجامعة العربية الى اقتراح مرجعية عربية على القمة القادمة تعنى بالامور القانونية والسياسية المتعلقة بالموارد المائية المشتركة وتدعيمها بالحقائق والدلائل العلمية والوثائق العربية والدولية، مما يستدعي في الحفاظ على الحقوق المائية العربية وصونها، وخاصة ان مسألة المياه المشتركة في الوطن العربي تشكل انموذجاً واضحاً للتحدي الذي يستلزم العمل الجماعي.
ايها الاعزاء، بعد هذا النهار الشاق بطول وعرض اقضية الزهراني وصور وبنت جبيل، سيكون لنا موعد الاسبوع القادم في اقضية مرجعيون وحاصبيا، وسيكون لنا كلام اكثر صراحة انطلاقاً من شبعا من اجل مجتمعاتنا العربية ومن أجل لبنان ومن اجل الانسان في لبنان.