كلمة الرئيس نبيه بّري في مهرجان التبغ السنوي ـ بلدة رميش الجنوبية

لأنها الصمت الذي طال وهو يرتجي وعداً، وقد تعتقت بالصبر وهي تخلع أثواب الأسى،  وتنتظر ثم تعود فتخلع ثوب الحرمان، وتنتظر ثم تعود فتخلع ثوب الإهمال، وتنتظر ثم  تعود فتخلع ثوب الصوت الذي يجلدها بالكلام الذي لا يطعم خبزاً، وتنتظر ثم تعود  للصمت الذي طال وهو يرتجي وعداً، وعداً بأن تأتي إليها الدولة وتسألها: ماذا تريدين أيتها السيدة البلدة يا رميش، يا لوحة التراب الذي تحتشد فيك المشاتل  والمناشر.

ولأن السيدة البلدة رميش يكاد صوتها يستحي من الخروج إلى عـراء البياض، وهي تتمنى  الخروج إلى الجواب الذي ملت منه طيلة عهود، حيث اشتكت العشب الذي يأكل وجه التراب،  واشتكت الماء الذي ينتظـر انهمــار الصيـف، وحيـث اشتكت مثل السيدة البلـدة عيتا الشعب وأخواتها راميه، رشاف، دبل، حانين، عين ابل ويارون كما كل الأنجم المعلقة على حدود الوطن، اشتكوا النسيان وتعبوا من محاولة استحضار روح الدولة الواجبة الوجود وهي الحاضرة الغائبة، تعبوا من فراغها الذي ينهار في الفراغ،  تعبوا من هذا السحر الذي يجعلهم أسماء لفردوس مفقود، تعبوا من أن لا يتذوق وطنهم طعم ألوانهم، وان لا يتلمس وطنهم ورود وطيور وأشجار وأحجار كرومهم.

ولأن البلدة رميش سيدة من طراز أمهاتنا، لا تزال على تقاليدها لا تملك إلا مجد  كرومها، ولا تزال وديعة كالهمس في شفاه أمهاتنا حين تتمتم دعاءها وصلاتها، ولأنها لا تزال تدق باب كنيستها لتعترف بالتهم الصغيرة، فيما الأسماء الأخرى لمدن وعناوين ترفض الاعتراف بالتهم الكبيرة، لأن البلدة السيدة لا تزال على براءتها يحتاجها الضحك الرغيد ولا تزال تزعل كطفلة تشتاق لأن تحرك الصوت.

لأنها في المحبة مثل عين ابل التي يصوغها الحنين العذب، ولأنها مثل عين ابل ودبل حدائق للأفراح وشرفات للأزهار، ولأنها مثل بنت جبيل وعيترون ومارون وحولا إلى آخر  الأسماء وروداً تذوب في تراب يومها لتترك عطرها للغد.

لها إذن ولكل قرية وبلدة ومدينة في هذا السماء الجنوبي، وعد الأرض المضمخة بالشوق التي  تبوح جهراً بالاخضرار.

لها  سلام أمهات التبغ العائدات من القطاف وقد فتحن باب الليل على الشمس.

لقراكم الممتدة من الجنوب إلى البقاع إلى عكار إلى أعالي جرود جبيل وكسروان،  المرسومة على صفحات حواكيرها تفاحاً وتبغاً من أرضنا، وهي تمرّ على صباح عيوننا وترمي سلام العائدين من الغناء إلى الحداء إلى الصفاء.

 لأياديكم  الخضراء المزدهرة بالتبغ، ولمنازلكم المسورة بالتين والزيتون، ولإدارة حصر التبغ والتنباك

ولنقاباتكم التي علمت الجميع النضال المطلبي، ألف تحية وبعد

اشتقت إليكم وقد تأخر لقائي بكم هذا العام لأسباب تعرفونها، حيث ما كدنا نخرج من  استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية حتى دخلنا الاستحقاق الرئاسي، وهو الأمر الذي جعل الجميع يدخلون في سباق خـارج التنافس الذي كنا نرجوه على قاعدة ما تستدعيه الضرورة الوطنية، والتحديات والوقائع الداخلية والإقليمية، وصورة الحركة المتصلة بالمنطقة والتي للأسف الشديد لا تريد لها خيراً.

لذلك استأذنكم في أن ادخل إلى هذا اللقاء من باب هذه الوقائع والتحديات لاؤكد على ما يلي:

أولاً: بداية من رميش النجمة المعلقة على شريط الوطن الحدودي أؤكد على موقف معلن ومعروف، ان الرهان على جعل لبنان الدولة الثالثة التي توقع على ما يوصف باتفاق سلام مع إسرائيل هو رهان مثير للسخرية، فقد سبق لإسرائيل أن جعلت لبنان حقل رماية  بالذخيرة الحية لمدة عشرين عاماً، وتوجت ذلك باجتياح عام 1978 لجعله الدولة الأولى التي توقع على اتفاق استسلام وسقط هذا الرهان، وبعد أربع سنوات وفي العام 1982 اجتاحت إسرائيل ثلثي الأراضي اللبنانية وكان لبنان يعيش واقع الفتنة، لإجباره وهو في حالة من الوهن السياسي والاقتصادي والتفكك ليكون الدولة الثانية التي توقع صك  الاستسلام، وسقط اتفــاق السابع عشر من أيــار، ودخل لبنان عصر المقاومة التي دحرت  جيش الاحتلال الإسرائيلي عن معظم أرضنا، الآن نؤكد أن رهان لبنان هو على السلام  العادل والشامل الذي يحقق تحرير الأراضي العربية المحتلة وأماني الشعب الفلسطيني،  وفي طليعتها حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، وانطلاقاً من ذلك  فإن لبنان الدولة الأخيرة التي ستوقع على صيغة مثل هذا السلام.

ثانياً: وفي هذا الإطار ولأننا هنا في رميش نقف على الخط الأخضر، خط المعاناة وخط الصبر، ولا أقول الخط الأزرق، فخلف هذا الخط وعلى مرمى من هنا انتزعت قرى لبنانية  وجرت تسوية دولية عليها في رسم خطوط حمر وزرق، بين قوى دولية كانت منتدبة على المنطقة.

نقول نحن لا ننسى انه كان لفرنسا ولا يزال خلال سنوات المحنة والعدوان وخلال مسعانا المستمر لترسيخ الدولة والنهوض العمراني ومواجهة الأزمة الاقتصادية أيادي بيضاء  كثيرة.

ونحن لا ننسى أن انعقاد قمة الفرنكفون في لبنان وقيادة الرئيس شيراك بنفسه لمسيرة  الفرنكفون نحو لبنان كانت حدثاً دولياً، أكد الثقة بلبنان كضرورة دولية إلى جانب أن لبنان اثبت انه ضرورة عربية ولبنانية.

ونحن لا ننسى أن الرئيس شيراك حضر إلى لبنان قبل ذلك، ووقف في المرتين تحت قبة البرلمان اللبناني وعلى منصة البرلمان، وخاطب الشعب اللبناني وهو اعتراف بدور المجلس النيابي وبحق المجلس النيابي في بناء خياراته الدستورية وأيضاً القانونية تجاه أي استحقاق.

 لذلك نتمنى أن تستدرك فرنسا شارل ديغول وفرنسا جاك شيراك الخطأ، بجعل لبنان مكشوفاً على المستوى الأوروبي أمام العواصف الأميركية التي تهب على المنطقة بمشاريع الشراكة وبمشاريع الشرق الأوسط الكبير، وهي المشاريع التي تصدت لها فرنسا والمانيا منذ أن لمستا النوايا العدوانية المبيتة للولايات المتحدة وتحالف الراغبين، الذي  انحاز إليها في احتلال العراق بوجود أسباب ومبررات ومسوغات أو بدونها.

نوجه الأنظار إلى ذلك لأن فرنسا تدرك قبلنا أن الولايات المتحدة الأميركية تتصرف من موقع احتكارها المركزي للقوة، وتتحرك في الشرق الأوسط بما يتـلاءم مع المصالح الإسرائيلية وبالوكالة عن إسرائيل، وان سياساتها تجاه المنطقة ترسم في إسرائيل، وان إسرائيل لا تريد أي دور للأمم المتحدة التي تمثل فيها فرنسا وروسيا والصين دولاً رئيسية تملك حق النقض، وان إسرائيل هي التي أطلقت العنان لأمراء الظلام ولعصابة  البنتاغون ممثلين بـ” ريتشارد بيرل ” لإطلاق نظرياتهم بعنوان: وداعاً للأمم  المتحدة.

إن الأمم المتحدة ومنظماتها التي ننحاز لأدوارها هي الأمم المتحدة التي يجب أن تثبت صدقيتها في تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالشرق الأوسط، وفي الطليعة القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي يؤكد على حق العودة، الأمم المتحدة التي تنتصر للقرارات الصادرة عن أعلى هيئة من هيئاتها ونقصد مجلس الأمن وفي الطليعة القرار 242 و338، الأمم المتحدة التي تنجز تنفيذها للقرار 425 باستعادة لبنان  لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

إننا نقول أن قرار مجلس الأمن الأخير بحق لبنان ما كان ليكون لولا أن القرارات التي أسلفت ذكرها نفذت، حيث أن المنطقة وفي قلبها لبنان كانت ستنعم بالأمن والسلم  والاستقرار، ولكن وطالما أن تلك القرارات لم تنفذ، وطالما إن الإدارة الأميركية تحاول أن تحكم المنطقة إلى خريطـة الطريق أو إلى خرائط طرق متجاوزة القرارات الدولية، بل تحاول أن تحكم المنطقة إلى مشاريع شارون والى جغرافية شارون والى جدار شارون، فإن من حق لبنان ومن حق دول وشعوب المنطقة أن تشهر مقاومتها وان تستعين  بعضها ببعض من اجل أن تؤمن ضماناتها بمواجهة العدوانية الإسرائيلية.

إننا هنـا لا نحتاج للتحدث عن حقنا السيادي في صنع أي استحقاق، ولا عن حقنا في الاتفاق وإقامة علاقات مميزة مع الشقيقة سوريا، وعن حقنا في تحقيق كل أنواع الضمانات التي تؤمن استقرار النظام العام في لبنان والتي تردع أي محاولة إسرائيلية  للاعتداء على لبنان، إن ما نحتاج للتأكيد عليه هو: وضع الآليات الدولية الكفيلة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي حسب الترتيب الزمني والرقمي، وعندئذ فإنه لا حاجة للحديث عن قرار مجلس الأمن الأخير، لأن لبنان وسوريا سينصرفان بالتأكيد لتنفيذ مشروعات التنمية الشاملة على مساحة البلدين، وستكون المقاومة الوطنية اللبنانية قد أدت مهمتها، وسيكون الجيش السوري سعيداً بأن ينعم لبنان بازدهار الإنسان فيه.

أيتها الأمهات والأخوات، اخوتي يا رجال التبغ، بالعودة إليكم، اعبر عن أسفي الشديد لأننا في كل عام نجد أنفسنا محكومين إلى ترداد نفس الاسطوانة حول دعوة وزارة المالية والحكومة إلى الموافقة على ان تشكل هذه المنطقة الاستثناء في سياسات الحكومة، عبر إطلاق المشروعات التنموية إلى جانب مسألة أساس وهي توفير فرص العمل لتعويضها عن سنوات الاحتلال وربطها بعمقها الوطني.

ولعل أحد أدوار الدولة الهامة في هذه المرحلة هو البحث عن الوسائل الكفيلة بتعزيز الأرياف خصوصاً منطقة الحدود الجنوبية والبقاع الغربـي وراشيا، عبر توفير فرص العمل الكفيلة بصمود الناس في مناطقها.

 فالزراعات التبغية على سبيل المثال تكاد تشكل مصدر الدخل الحيوي الوحيد لأبناء المنطقة الحدودية المقيمين، حيث يشكل الإنتاج التبغي لخمسين قرية منتشرة في المنطقة الحدودية وفي طليعتهم رميش نحو ثمانية وثلاثين بالمئة من إنتاج الجنوب الإجمالي.

فإذا كنا نعرف انه لم يحصل أي تقدم في موضوع الضمان الصحي والاجتماعي لمزارعي التبغ  وصيادي الأسماك ومؤسسات الرأي العام الثقافية، فلماذا هذا المشروع ينتقل من يد  حكومة إلى أختها دون إقرار؟

ثم وإلى متى ستبقى مسألة الصناعات التبغية تنتظر؟ ومن المسؤول عن الفرصة الضائعة التي قدمها لنا الرئيس الكوبي فيدل كاسترو بإنشاء مصنع  للسيكار؟

ومن  المسؤول عن الفرصة التي تكاد تضيع والتي قدمها لنا الرئيس الدكتور بشار الاسد رئيس  الجمهورية العربية السورية، لإنشاء مصنع مشترك للصناعات التبغية في البقاع، تكون  ملكيته مناصفة بين البلدين مع العلم أن السوق الاستهلاكي في لبنان وسوريا يتجاوز  الخمسة والعشرين مليون مستهلكاً؟

إننا نطالب باسمكم جميعاً بالمبادرة إلى اخذ هذه الفرصة، كما نطالب بإعادة نسبة عائلة التبغ الى ما كانت عليه مطلع السبعينات لتصل نسبة المستفيدين من زراعة التبوغ  إلى ثلاثماية ألف مع إضافة مئات العمال، فيما لو انطلقت الصناعات التبغية في شتورا  وبكفيا وعكار والغازية وإدارة الحصر نفسها.

إننا في نفس الإطار نطالب الحكومة بالموافقة على المشروعات والأفكار التي قدمتها وزارة الزراعة حول:

أولاً: مشروع الزراعات العضوية واقصد الزراعات التي لا تحتاج إلى أسمدة ولا إلى كلفة عالية، حيث تقتصر هذه الكلفة على قليل من التأهيل أو الاستصلاح، مع العلم أن اغلب المساحة الزراعية في لبنان لا تزال بكراً بيئياً وزراعياً.

ثانياً: مشروع الاستثمار على الشاطئ اللبناني، علماً أن الدراسات تؤكد أن الطبيعة البحرية ونسبة الملوحة تؤهل هذا الشاطئ لإقامة مزارع للأسماك أو لثمار البحر المتنوعة.

مرة جديدة سنعلق آمالاً على الحكومة، وليس المهم أن تكون الحكومة جديدة أو قديمة، المهم أن يكون أداؤها جديداً وان تكون مفاهيمها جديدة، وان يكون نهجها جديداً وان تكون فعاليتها ملموسة ومحسوسة من الناقورة إلى النهر الكبير الجنوبي وان تكون حكومة وطنية تمثل كل شرائح المجتمع.

إننا في الإطار المطلبي وعلى أبواب العام الدراسي ونظراً للازمة الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة، نطالب بإعفاء الطلاب في المرحلة ما قبل الجامعية من رسوم  التسجيل في المدارس الرسمية للعام الدراسي الحالي وفقاً للترتيب الذي اتبع منذ العام 2000.

أما على المستوى الوطني السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام فإننا نقول للجميع، إن لبنان الآن دخل امتحاناً مع نفسه وليس مع المجتمع الدولي، والسنوات الثلاث القادمة ليست امتحـاناً لفخامة الرئيس، فأنا اشهد انه حاول وإننا حاولنا جميعاً ولكن بالمفرق، وكان كل منا يضع المتاريس أمام آرائه، اليوم المطلوب أن نعمل بالجملة، والمطلوب أن نعزز المشاركة، مشاركة المعارضة قبل الموالاة ومشاركة كل الناس في كل ما يصنع حياة المجتمع والدولة.

ونقول نعم للإصلاح الإداري، ويجب أن يكون هذا الإصلاح سلة شاملة وان لا يبدأ بخجل  هنا وينتهي هناك وان يعطى لأجهزة الرقابة أي الخبز للخباز ولا يكون تحت رحمتنا  كسياسيين.

ونقول نعم لاستعادة الدولة لكل مرافقها، نعم لوضع قانون عصري للاملاك البحرية، نعم للامركزية الادارية التي تعزز التنمية، ونقول لا لأي ارتكاب، ولا لهدر الأموال العامة، ونعم لرفع الغطاء عن الفاسدين والمفسدين ونعم والف نعم لاطلاق يد القضاء ورفع اليد عنه.

ونقول: هناك فرصة لإطلاق مقاومة سياسية واقتصادية وإدارية لكسر كل أنواع الاحتكارات وجعل صورة لبنان نقية وبيضاء ناصعة كثلوج صنين، واستعادة مشهد لبنان مطرزاً بالأخضر كما كان مفعماً بالمحبة والتسامح، وتلكم هي رسالة لبنان.

هذه التدوينة نشرت في خطابات الرئيس بري, دعم شتلة التبغ. الإشارة المرجعية.