كلمة دولة الرئيس نبيه بّري في حفل تدشين مسجد الإمام شرف الدين – صور

للمدينة التي حكماؤها هم بحارتها ، وفَلاحوها ملاحوها ، وشعراؤها مؤرخوها ، ونساؤها  أميرات الممالك المكتوبة في دفاتر الزمان .

لصور، أول بيت وأول ميناء وأول شراع ، المدينة المبتهجة التي ترقى إلى الأيام  الأولى ، والتي تمتد منازلها إلى حيث تصل أشرعتها .

لصور، التي ترتوي بما ينهمر من عيون مجدها على حقول أعمارنا ، والتي تغسل أحزاننا  على شاطئها ، حيث دم الحبر وحبر الدم يتعانقان، وحيث لهب العنفوان يلتقي أخبار  تواريخها التي اكتست أثواب الفخار .

لصور، التي عبر بحارتها البحار وبذروا أحرف اللغة الأولى على مساحة العالم .

لصور، التي خبأت شوقها في أصداف الموركس والمرجان من جيل إلى جيل .

لصور، المعمورة من البحار التي لا توجد شبيهة لها ، المدينة الشهيرة التي تعمم  العلماء وتتوج الملوك وتقدس المقاومين ، لمدينة الإمامين المقدس السر السيد عبد  الحسين شرف الدين ، والحجة في الحضور المتألق السيد موسى الصدر .

لصور التي أعلنت الجمهورية عام مئتين وخمسة وسبعين قبل الميلاد ، واتخذت دستورا”  وانتخبت مجلسا” لإدارتها قبل أن يتعرف العالم على الديموقراطية وتصير سلعة للتصدير  بواسطة الأساطيل .

لصور ، القصبة المزدهرة التي كلما صلبت ودمرت وأحرقت ، تقوم كطائر الفينيق من تحت  الرماد وكلما عتقت تجوهرت .

لصور الكنيسة الأولى في عهد المسيحية بشهادة بولس الرسول ، ولصور سجادة صلاة شرحبيل  بن حسنة .

ولصور التي كلما غامر الباحث في التعمق بتاريخها ، سيكتشف أن تخريبها وتدميرها كان  الكابوس الليلي الذي يضغط على صدر المتخيلين في الرؤى ، أليس مكتوبا” في الأسفار :

          ولولوا يا سكان الجزيرة

          التي تتوج الملوك

          وتجارها أمراء

          ومتاجروها كرام الأرض

          رب القوات هو قضى ذلك

          ليذل كبرياء كل بهاء

          ويهين كرام الأرض

أليس مكتوبا” في الأسفار وفي السنة الحادية عشرة ، في الأول من الشهر ، كانت اليّ  كلمة الرب قائلا” : ” يا ابن الإنسان ، بما أن صور قالت على أورشليم : هه ، قد  انكسرت مصاريع الشعوب وتحولت الىّ ، فأنا امتلئ ، أما هي فقد دمرت ، لذلك هكذا قال  السيد الرب : هاءنذا عليك يا صور ، فأصعد عليك أمما” كثيرة ، كما يصعد البحر أمواجه  ، فيدمرون أسوار صور ويهدمون بروجها ، واجرف ترابها واجعلها حجرا” عاريا” فتصير  منشرا” للشباك في وسط البحر لأني أنا تكلمت ، يقول السيد الرب وتكون نهبا” للأمم .  وبناتها اللواتي في الحقول يقتلن بالسيف ، فيعلمون أنى أنا الرب .

ما  لم يكن مكتوبا” ، في تلك الأسفار هو ما كتبه الله على صور أن تكون مدينة الأعجوبة  الأولى ، حيث اخرج السيد المسيح عليه السلام الأرواح النجسة من جسد الكنعانية التي  هي صور وطهرها تطهيرا” .

وما  لم يكن مكتوبا” في الأسفار أن جيوش الطغاة التي تم إغراؤها بكنـوز صور سوف تتحطم  آمالها وأساطيلها وأحقادها على أسوار صور، حتى لو هدموا حصونها وحولوها أطلالا”  واعتقدوا أنها لن تستفيق من الكوارث، وأنها لن تصعد من هوة التدهور وأنها لن تقوم  من تحت الخراب .

ما  لم يكن مكتوبا” في الأسفار أن الله سيمن على المستضعفين ويجعلهم أئمة ويجعلهم  الوارثين .

ما  كان مكتوبا” في تلك الأسفار أن هناك محاولة ستجري لإدخال صور ومجالها الوطني الذي  هو لبنان في العصر الإسرائيلي ، وان البوارج ستدك أحياءها والطائرات ستستهدف  مناراتها ، والمدافع ستجعلها حقل رماية لقذائفها.

ما  لم يكن مكتوبا” في تلك الأسفار وكان مكتوبا” على ألواح أسرارنا التي توارثناها منذ  أن تعلمنا المقاومة والشهادة في كربلاء ، هو أن صـور ستدخل عصر الإمام الصدر ، عصر  أفواج المقاومة اللبنانية ( أمل ) عصر محمد سعد ، وأننا سنؤسس لقيامتها واننا سنعيد  لصور بهاءها ومجدها ، وها هي صور قامت حقا” قامت ، وها نحن السباقون إلى المقـاومة  ، البذار الصالح في تلال شلعبون ومسعود وكفركلا والطيبة ، الذين دحرنا الاحتلال مع  اخوة لنا ورفاق نقول من صور على اورشاليم : هَهْ ، ونقول أن شرف القدس يأبي أن  تحرره إلا أيادي المؤمنين .

          إذن لصور ألف سلام

          ولكم ألف تحية وسلام وبعد

ها  نحن في بيت من بيوت الله ، المسجد الذي تم تأسيسه برعاية مباركة من سماحة العلامة  العلم المرحوم المقدس السر السيد عبد الحسين شرف الدين مطلع القرن الماضي .

ها  نحن في المسجد الذي يمثل ذاكرة للعمل الجماعي الدوؤب ، الذي تمثل في مرحلته  التأسيسية بجمع أحجار البناء الرملية التي استخدمت في رفع بنيانه استنادا” إلى  عامودي الغرانيت الأسود اللذين تطلب نقلهما مجهود عشرات الرجال المتطوعين من  أجدادكم .

ها  نحن في هذا المكان الذي تطوعت مجهودات جماعة من أبناء جبل عامل لإعادة الطابع  التاريخي للبناء ، وإزالة الإضافات الإسمنتية التي شوهته ولشراء المباني المحيطة  لتوسيع حرمته وإجراء تحسينات معمارية عليه ، تجعله يشكل زاوية جمالية في فن النسيج  المعماري الحضاري لمدينة صور ، وكذلك فتح طريق جانبية موازية له تسهل دخول وخروج  المواطنين إلى المدينة القديمة .

ها  نحن في حرمة هذا المسجد لأسباب أربعة :

الأول : لأنه بيت من بيوت الله نحتاجه في هذه الأيام العصيبة ، من اجل أن نقوي  إيماننا ولنأخذ زينتنا عنده اذا ما كبر التحدي وتهدد الجنوب وسوريا وأي من مقدساتنا  .

الثاني : لاحياء ذكرى عالمنا العالم سماحة الإمام السيد عبد الحسين شرف الـدين  المجتهد والمفكر والمؤلف وصاحب الكتاب والمكتبة ، الذي اعمر الله على يديه وبرعايته  هذا البيت لله ، لنعلن وفاء له ولمدينة صور إنجاز مسجد الإمام شرف الدين على الصورة  التي كان يريدها لو توفرت له الأسباب والمواد .

الثالث : لأن إمام المقاومين والمحرومين الإمام القائد السيد موسى الصدر كان إمام  هذا المسجد الذين فتح له أبوابه الإمام شرف الدين ، ومن هذا المكان انطلقت المسيرة  الجهادية للإمام الصدر ، وفيه أسس النواة الأولى لأفواجه ولحركته الرسالية .

الرابع : انه من محراب الإمام الصدر أردنا أن نتوجه إلى اللبنانيين عامة والى  الجنوبيين بصفة خاصة والى أهلنا في صور ، من اجل اعتبار استحقاق الانتخابات البلدية  والاختيارية محطة لتأكيد الوحدة على هدف التنمية ، باعتبار أن الوحدة حاجة وطنية  وقومية في هذه الظروف التي تتصاعد فيها التهديدات ، ويجري فيها إلقاء مسؤولية عجز  المحتلين عن السيطرة على انتفاضة الشعب الفلسطيني ، وعلى ممانعة الشعب العراقي  باتجاه سوريا والجمهورية الإسلامية ، وفي الوقت الذي تتصاعد فيه تهديدات موفاز  وشارون بنقل الاغتيالات وعمليات الارباك الأمنية خارج الحدود ، وفي الوقت الذي  تحتاج فيه الإدارة الأميركية إلى عملية تحويل الانتباه عن فشلها في إخضاع العراق .

إنني هنا أذكركم بعدم الانسياق خلف أي تضليل يحاول ان يجعل من أبناء صف المقاومة  الواحدة اخصاما” يتوزعون على محاور البلديات ويقفون على متاريس العصبية والفئوية .

إنني أطالبكم بإدارة الائتلاف أو الاختلاف في إطار حجم الاستحقاق نفسه وعدم تسييس  الوقائع ، لأن العمل البلدي سيصبح محكوما” إلى حسابات الربح والخسارة وسيؤدي إلى  تعطيل المصالح العامة .

إنني أدعو إلى وفاق وتوافق في هذا الاستحقاق ، وهذا الأمر يمثل جوهر الديموقراطية ،  مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الوفاق والتوافق لا يعني تحويل المجالس البلدية إلى  مجالس تمثيلية للأحزاب ولا إلى مجالس عشائر وعائلات .

إن  التوافق الذي أدعو إليه يجب أن يعبر عن مشاركة متفهمة لمهمة المجالس البلدية التي  تشكل الخلية الأولى لبناء الهيكل الأساس للدولة ، إن التوافق الذي أدعو إليه يجب أن  يؤسس لبناء وصنع مؤسسات بلدية تعبر عن مستوى متعمق في مسألة الإنماء لاتخاذ  القرارات الصائبة وتجاوز الأسلوب التوافقي .

إنني أدعو لوفاق لأجل مدينة صور كمثل يحتذى ، يعيد إنتاج المدينة كمتحف للتاريخ  والتراث الإنساني ، وكواجهة للحداثة وكمدينة عصرية انموذجية تتضمن جميع الخدمات  وكمرفق سياحي متمايز .

إن  بلدية صور يجب أن تكون معنية بكل مواطن وان تعتني بمتطلباته ، كما يجب ان تكون  معنية بشخصية المدينة من قاعدتها إلى قمتها ، بلدية جديرة بعاصمة المقاومة .

إن  التحدي يقع هنا بين الذين تركوا هذه المدينة كما غيرها على مساحـة جهات الوطن مجردة  من إمكانية التطور جامدة عند حدود سلطتهم، وبين من يطمحون إلى استعادة صور التي  تغنت بها الأمم .

من  جهتي أعول على هذا الاستحقاق لتنمية فن الحياة المشتركة ، مع إيماني المطلق بأنه لا  يمكن تصور تلك الحياة دون مزاحمة أو منافسة ولا أقول تعارك .

في  ختام مسألة هذا الاستحقاق يبقى أن نعلق الأهمية القصوى على دور المواطن كرقيب ،  وعلى دور أجهزة الرقابة في ضبط إيقاع العمل البلدي .

إن  هذه المبادئ يجب أن تشكل إطارا” لحفظ صور وكل مدينة وبلدة وقرية لبنانية ، لأنه  خارج هذه المفاهيم فإن هذا الاستحقاق سيتحول إلى معارك تضع اللبنانيين في موقع  الخصومة وستجعل من الانتخابات البلدية والاختيارية فتنة تدخل كل بيت .

          الأهل الأعزاء

ومـن مسجـد سمـاحة الإمام شرف الديـن ومن محراب الإمام الصدر ، لابد أن نعبر عن  قلقنا البالغ لاستمرار قوات الاحتلال الإسرائيلية في استفزاز مشاعر المسلمين على  مساحة العالم ، عبر الاستمرار في تدنيس حرمة المسجد القدسي الشريف كما كنيسة  القيامة ، واستفزاز مشاعر المؤمنين عبر جرائم الحرب المتمادية ضد الشعب الفلسطيني  الشقيق .

كذلك لا بد من هذا المسجد من إبراز مشاعرنا المتضامنة مع شعب العراق في كل مدينة  وقرية ودسكرة ، ورفضنا لأسلوب الحديد والنار الذي تتبعه قوات الاحتلال ، وبالأساس  رفضنا لاستمرار هذا الاحتلال الذي يؤسس للفوضى والفتنة ، وكذلك رفضنا لأي محاولة  للمساس بحرمة العتبات المقدسة .

إننا ندعو إلى احترام حق الحياة للعراقيين ، وحقهم الكامل في الاشتراك الكامل في كل  ما يصنع مستقبلهم ومستقبل دولتهم ومجتمعهم .

أخيرا” إن المشهد العراقي الدموي يكشف زيف الادعات حول تصدير الديموقراطية ،  فالديموقراطية لا يمكن ان تنبع من فوهة المدافع ولا من الأسلحة المحملة على طائرات  الاباتشي .

إن  الديموقراطية تكون صناعة وطنية أو لا تكون ، فتعالوا أيها الاخوة لنثبت انطلاقا” من  الاستحقاق الراهن أننا جديرون بصناعة ديموقراطيتنا وجديرون بوطننا لبنان .

عشتم ،

عاشت صور ،

الخلود لمؤسس هذا المسجد

الإمام شرف الدين

والتأكيد على استمرارنا على نهج

وخط  إمام محرابه الإمام الصدر

                                                عاش لبنـــان

هذه التدوينة نشرت في خطابات. الإشارة المرجعية.