بسمه تعالى
لبيروت ، وردة أعيادنا وملح خبزنا ، ومدينة حياتنا وحكاية أعمارنا ، وصدى شهقة قرانا وسلال غلالنا ، وعروس بحرنا وسيدة برنا ، وام مدائننا وفضاء نجومنا ، وشمس أيامنا وأحلام ليلنا .
لبيروت ، مرآة وجوهنا ونبض قلوبنا ، ووعد غرامنا وموعد أشواقنا ، وصخب أحاسيسنا ورنة فرحنا ، وفيض دموعنا وصحو غفلتنا ، وساحة قيامتنا .
لبيروت ، مدى أصواتنا ونكهة لغتنا ، ولوحة ألواننا ومحبرة اقلامنا ، ودفتر اشعارنا ومطبعة ذاكرتنا ومعرض كتابنا .
لبيروت ، التي احتمينا فيها من لسعة الحرمان ومن نار العدوان ، عندما كان الجنوب حقل رماية لاسلحة الموت الاسرائيلية .
ولبيروت التي حمل اليها الشمال احلامه بوطن لا تحده الفئات والجهات ، ولا تحكمه الهواجس والقلق ، ولا تتنازعه الانفعالات .
ولبيروت التي ارتحل اليها البقاع بحثا” عن فرصة عمل ، وعن تفسير حلمه بوطن لا يكون فيه الناس محرومين في وطنهم .
ولبيروت التي حمل اليها الجبل تفاحة عمره ، ونزل اليها من جنانه ليبادلها السلام .
لبيروت ، ولجرس مدرستها الذي يوقظ الصباح ليتراصف في صف مدرستها : المقاصد .
وللمقاصد التي تحفظ ابجديتنا عن ظهر قلب ، وتفتح ذاكرتنا على لغة القرآن ، وتستنهض في وجداننا وقلوبنا ازمنة وامكنة العروبة وتاريخها وشهامتها وفروسيتها .
وللمقاصد حضن الامام الاوزاعي وموقد فكره .
وللمقاصد التي مثلت جذوة الموقف القومي وكانت صدى نبض صرخة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في برية العالم في مرحلة الاستقلال الوطني والنهوض القومي .
وللمقاصد خرزة بيروت الزرقاء وصمودها بمواجهة الحصار الاسرائيلي عام 1982 .
والمقاصد حصن دولة الرئيس المرحوم صائب سلام رئيس المؤسسة ، الذي تمكنا معه يدا” بيد من ازالة اثار الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 ، ومن بناء وصنع اسس مشاركة كل اللبنانيين في صناعة حاضر بلدنا .
ولجمعيـة خريجي المقاصد التي علمتنا كيف يجري الشتاء في دمنا ، من اجل ان يزدهر ربيع شبابنا بالطموح .
وللجمعية التي جعلت من الوطن قلما” وسيفا” ، والتي علمتنا ان الصمت لغة خرساء ، وان الصوت يجب ان يبلغ حد المشاركة في كل ما يصنع حياة المجتمع والدولة .
وللمقاصد وجمعية الخريجين التي حملت اليها الجنوب ، فأستقبلت بأذرع مفتوحة التلميذ القادم من حواكير الحدود ، وهو يحمل على يديه نضـارة الفراشات ، والذي تطير الدواري في عينيه من غصن الى غصـن .
لبيروت وللمقاصد ولكم الف تحية
وبعد وبعد .
انه لشرف كبير لي ان اقف على منبر مدرستي المقاصد ، بمناسبة مرور خمسة وسبعين عاما” على تأسيس جمعية متخرجي المقاصد وهو امر يشكل بالنسبة لي فخرا” كبيرا” حيث انني وفي هذه اللحظة اراني اكبر في عيني استاذي المرحوم زكي النقاش المربي والمؤرخ ، الذي علمنا سلوك طريق الحرية والحقيقة قبل ان يفتح الكتاب على عناوين الدروس ، وقبل ان يفتح الباب لاسئلة كثيرة حول الحياة والوطن ، لأن الحرية والحقيقة كانت في نظره هي : الحياة والوطن .
وبداية، اسمحوا لي ان اتوجه بالتحية الى الاشخاص الذين تعاقبوا على رئاسة جمعية المتخرجين او في ذمة الله ، وقد تناوبوا على حمل راية هذا الصرح التربوي الذي فتح باب المستقبل امام ما يزيد على عشرين الف خريج ، تبوأ بعضهم اعلى المناصب في السلطتين التشريعية والتنفيذية وفي الادارة والسلك الخارجي والقضاء وفي مختلف قطاعات المهن .
واسمحوا لي كذلك ان اتوجه بالتحية الى رئيس واعضاء الهيئة الادارية الحالية لجمعية المتخرجين التي منحتني شرف رعاية هذا الاحتفال ، وهي في الواقع ادخلتني في امتحان الذاكرة لكل لحظة قضيتها في هذا الصرح ، واعادت لي صورا” جميلة ومشرقة للهيئة التعليمية التي كانت الاشد اخلاصا” في المجالين التربوي والمهني ، وكذلك صورا” مليئـة بالاحاسيس لزملاء في مقاعد الدراسة وفي خنادق النضال المطلبي .
الحضور الكريم
ان الوقوف على منبر المقاصد كما قلت امتحان لي يفترض ان اقدم خلاله اجوبة على النظام التربوي والنظام الثقافي والنظام السياسي في لبنان ، وعلى اسئلة ملحة مطروحة على المنطقة .
في مسألة النظام التربوي ، ابدأ من حيث انتهى اليه اضراب اساتذة الجامعة اللبنانية لأقول : ان لبنان الذي لازال يملك الفرصة النادرة من اجل ان يلعب في نظامه العربي والاقليمي دور مدرسة المستقبل تأسيسا” على قاعدة الربط بين ناتج التعليم العالي وحاجات سوق العمل ، لازال يتخلف عن هذا الدور ولا ينتبه الى الاستثمار على هذا الدور وعلى هذه المهمة ، بل للاسف الشديد لازال يقصر عن تلبية حاجات الجامعة الوطنية الملحة ، ولازال يتلكأ في بحث تحويل الجامعة اللبنانية الى مركز ابحاث ودراسات وتخطيط ، ويقوم بتلزيم الدراسات وخطط التنمية وحتى المناهج التربوية الى مكاتب خاصة والى ملتزمين ومتعهدين تربويين .
لقد قلت في مناسبة تربوية ، اننا في الوقت الذي نزعم فيه اننا نمثل انموذج التحدي لعنصرية وعدوانية اسرائيل التي تقف على خط تماس التاريخ والجغرافيا لمواجهتها وهذا قدرنا ، فإننا بالكاد نصدق واحدا” على الف من ما تخصصه حكومة إسرائيل للجامعات ولمراكز أبحاثها .
لقد قمنا في المجلس النيابي وتوفيرا” لوقت الحكومة الثمين بعقد سلسلة ورش عمل وندوات ومؤتمرات بالتعاون مع مؤسسات الأمم المتحدة وبمساهمة من الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة ، بوضع توصيات تشكل الأساس لمشروع قوانين تختص بالتعليم العالي والتعليم المهني في لبنان ، ولازلنا نأمل ان يتسنى للحكومة الوقت للمبادرة الى تبنيها قبل ان نجد أنفسنا في المجلس النيابي ملزمين باقتراحها وإقرارها كقوانين ، اذا لا يجوز ان يستمر تغلب الكم على النوع في مجال التعليم العالي حرصا” على اجيالنا ، ولا يجوز ان لا يتم الربط الضروري بين التعليم في كل مراحله خصوصا” التعليم العالي والتكنولوجيا ، ولا يجوز الا ان نبادر الى اعتبار علوم المعلـومات والاتصال هي اساس العلوم الحديثة .
اما بالنسبة الى النظام الثقافي ، فأجدد القول انه من يأخذنا بيدنا اليمنى ليقنعنا بأن استقرار النظام السياسي هو المدخل الى استقرار النظامين الاقتصادي والاجتماعي ، وان من يأخذ بيدنا اليسرى ليقلب الاية بالزعم ان استقرار النظامين الاقتصادي والاجتماعي هوالاساس لاستقرار النظام السياسي ، انما يحاول كل منهما أن يأخذنا في طريق الخطأ الذي لا يؤدي الى اي نوع من الاستقرار ، لأن الحقيقة هي ان استقرار النظام الثقافي هو اساس استقرار النظام العام في أي مكان من العالم .
ان استقرار هذا النظام يبدأ من الاتفاق الناجز على ثوابت ومبادىء في تعريف الوطن والمواطن والمواطنية والعاصمة والحدود .
ان بناء استقرار هذا النظام يتأسس من خلال النظام التربوي ، الذي يجب ان يشتمل على التربية على الديموقراطية وعلى جعلها نهج حياة لا مجرد حدث انتخابي ، والتربية على رفض كل احتكار وكل امتياز يتعارض والدستور .
ان النظام الثقافي ليس مجرد هيكلية ادارة ولا ممتلكات ثقافية ، وليس مجرد نص او نوته او لون ولا مجرد بصمة ابداع .
ان النظام الثقافي هو تشكيل الحياة الوطنية ، وهو التعبير عن كل مفرداتها ، خصوصا” في بلد مثل بلدنا لا يملك ثروات نفطية ولا مناجم ، وثروته هي انسانه وطبيعته .
وبالنسبة الى النظام السياسي اقول ان الدولة هي مؤسسات ، والتزام المؤسسات لأدوارها يؤسس لبناء الثقة بالدولة ، وهذا التأسيس لا يمكن ان يتأمن الا بالمشاركة الكاملة السياسية والاقتصادية واساسا” الثقافية لكل مواطن دون تهميش او ضغوط او ملاحقة .
اننا مطالبون بجعل لبنان انموذجا” للدولة لا للسلطة .
ان الدولة التي نحلم بتفسيرها هي الدولة التي تقوم بدورها التربوي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي ويصبح فيها بالتالي كل مواطن حارسا” امنيا” وقضائيا” وبيئيا” .
الحضور الكريم
قبل ان انتقل الى الاجابة على الاسئلة الملحة المطروحة على المنطقة ، اود ان اطرح عنوانا” هاما” هو مسألة الاغتراب اللبناني .
ان كارثة كوتونو الجوية لا بد وانها شكلت صدمة ونكسة لكل لبناني ، وهي طرحت على كل وجدان مسألة لبنان المغترب كما لبنان المقيم ، والمسؤولية المتبادلة لكل منهما تجاه الاخر .
انني ومـن على منبر المقاصد ، هذا الصرح التربوي العريق اقول : انه لا بد من فتح هذا الملف بكل جوانبه الانسانية والمعنوية والمادية .
ان هذا الملف في ابعاده يتصل بأجيال متعاقبة من المتحدرين من اصل لبناني لم يعد لهم اية صلة او انتماء لوطنهم .
وهذا الملف لا يمكن تعويضه فقط بتمثيل هذا الانتشار الذي يمكن ان يتجاوز تعداده اربعة اضعاف لبنان المقيم ببضعة نواب في المجلس النيابي .
ان ايجاد صيغة للم شمل هذا الاغتراب ، واقتراح ما هو مناسب ، يفترض انشاء مجلس اغترابي لتخطيط سياسة لبنان الاغترابية .
لقد آن الاوان لوقف تصدير لبنان للاحياء واستعادتهم جثثا” في ثوابيت معدنية .
لقد آن الاوان لبناء شجرة العائلة المتحدرة من اصل لبناني ومحاولة الاحاطة بطاقاتها وامكانياتها .
ان اول ما ستكشف عنه محاولة من هذا النوع ، هو ان هذا الذي كان قرش لبنان الابيض في الايام السوداء هو حضور دولي ، يمكنه ان يقلب الوقائع اللبنانية رأسا” على عقب ، ويغني لبنان بخبرات متحدرة من اصل في كل المجالات .
ان لبنان المقيم في صورة مشهده الاغترابي هو فقير ومديون ، وهو بالكاد يستمر بالتنفس لصالح خدمة الدين العام ، بينما اللبناني المغترب وحتى المقيم ليس مغيرا” وهو يستطيع اذا ما تم العمل على لم شمل اللبنانيين وتوجيه استثماراتهم على تحرير لبنان من ديونه واستعادة عافيته الاقتصادية وتحقيق ازدهاره .
الحضور الكريم
لا يمكن الا ان تكون المقاصد كما كانت عبر تاريخها معنية بالشأن العربي ، ولا يمكن لنا نحن المقاصديين ان نتفرج على الوقائع العربية المحزنة والدامية احيانا” ، دون ان نفكر كيف السبيل للخروج منها وكيف السبيل لمواجهة التحديات ، خصوصا” وانه لا يمكن لاحد الزعم بأن ما يجري على مساحة فلسطين او العراق ، او ان ضرب استقرار النظام العام في المملكة العربية السعودية او المغرب ، او الضغوط على الجمهورية الاسلامية الايرانية تجري بعيدا” عنا ، وانه ليس علينا بالتالي تحريك أي ساكن ، ذلك لأن استهداف أي موقع في العالم العربي لا يمكن فصله لا عن الخروقات العسكرية الاسرائيلية للمجالين الجوي والبحري اللبناني ، ولا عن التهديدات العسكرية للبنان ولسوريا، ولا عن زيادة المساحات الاستيطانية في الجولان ، ولا عن اجراءات الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني التي تتمثل بجدار الفصل ، وكذلك بسياسة الحصار العسكري والتجريف والاعتقال وحفلات الاعدام الجماعية ، ولا يمكن فصل كل ذلك عن حاضر ومستقبل العراق .
ان المقاصدين معنيون بإعادة ترتيب جدول المهمات امام الشارع العربي واستنهاض امكانيات هذا الشارع ، ونشر وعي حول حرب السيطرة التي تستهدف الموارد البشرية والطبيعية لمنطقتنا ، خصوصا” وان المستوى السياسي العربي قدم الكثير من المبادرات التي كان آخرها مبادرة سيادة الرئيس الدكتور بشار الاسد لاستئناف المفاوضات ، والتي اثبتت بما لا يدع مجالا” للشـك ان العرب يعتبرون ان السلام حاجة عربية .
اننا وبصراحة نقف بمواجهة تحدي حرب تستهدف توقيع نكبة جديدة بالشعب الفلسطيني ، يخوضها المستوى السياسي في اسرائيل بقيادة شارون بعنوان التوطين والاستيطان .
ونحـن امام واقع محاولة الاستثمار على الوقت في المسالة العراقية ، لمنع الشعب العراقي من تقرير مصيره بنفسه واختيار نظامه السياسي ، من اجل امتصاص ما امكن من ثروات هذا البلد الشقيق .
ان المقاصديين معنيون بإثارة القوى الكامنة في الشارع العربي ، وفي طليعتها الاحزاب والنقابات ومؤسسات الرأي العام الاعلامية والثقافية ومختلف مؤسسات المجتمع المدني ، من اجل ان تأخذ المبادرة في التعبير عن رفضها المطلق لتحويل العالم العربي الى مساحات معزولة عن بعضها البعض ، تواجه كل مساحة مشكلاتها الضاغطة محليا” ودوليا” دون ان يتحسس بها العرب الاخرون .
ان هدفنا رسميا” وشعبيا” يجب ان يكون الاثبات للعالم ، ان المبادرات الدولية يجب ان تنصب على تجريد اسرائيل من اسلحة الدمار الشامل واسلحة الارهاب الشامل ، والتاكيد ان المقاومة والممانعة العربية انما هي نتيجة طبيعية للاحتلال وللعدوان .
ان اهم درس يمكن ان تنفرد المقاصد في ادراجه في صفوف تلامذتها ، هو التأكيد تاريخيا” على عجز القوة عن كسر مقاومة الشعب وان تثبت شعار قوة الحق بمواجهة حق القوة .
ان الرهان سيبقى دائما” على اجيالنا تلك التي تصطف في مقاعد الدراسة ، والتي تتعلم التاريخ والحساب وكما يجب ان تتعلم بناء قاعدة المعلومات ، وان تتطلع على مكونات عصر الاتصال وعناصره من اجل ان تتمكن من مجارات عصرها .
ايها الاخوة والزملاء أساتذة وأصدقاء
مجددا” اعبر عن سعادتي الغامرة في الوقوف على منبر مدرستي المقاصد ، على هذا المنبر الوطني والقومي والبيروتي العريق وأؤكد ان انتمائي إليه يجعلني كمقاصدي أقف على محاور الأمة من اجل بناء دورها وحضورها قويا” عزيزا” ، وعلى محاور الوطن لإثبات ان هذا البلد الصغير المنتشر على مساحة العالم يمكن ان يمثل الأعجوبة في عصر الأحادية الطاغية وفي عصر عولمة الفقر ، وان لبنان هو المساحة الممكنة لازدهار الإنسان .
عشتم
عاشت المقاصد
عاش لبنــان